بسم الله الرحمن الرحيم
ويجعلون لله ما يكرهون
أ. حسام الحفناوي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فلقد كان العرب في الجاهلية يزعمون أن الملائكة بنات الله، ويكرهون أُبُوَّتَهُنَّ، حتى سَنُّوا سُنَّة وَأْدِهِنَّ؛ تخلصًا من العار بزعمهم؛ كما قال - تعالى -: ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا﴾ [الإسراء: 40]، وقال - سبحانه -: ﴿ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ﴾ [الطور: 39]، وقال - جل وعلا -: ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [النجم: 21-22]، وقال - تعالى -: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 57 - 59]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [الزخرف: 17]، فانظر كيف يرضَوْن بوصف الله - تعالى - بما يَرْبَؤون عن الاتِّصاف به؟!
بل كان الواحد منهم لا يرضى أن يكون عبدُه المملوك شريكًا له مثل نفسه في جميع ما عنده، ولا يجد غَضاضة في جعلِ الأوثان شركاءَ لله في عبادته، التي هي حقه - سبحانه وتعالى - على عباده؛ كما قال - تعالى -: ﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الروم: 28].
ولم يَقفِ الأمر عند هذا الحدِّ من الافتراء على الله - تعالى - وعدم قَدْرِه - سبحانه - حقَّ القَدْر؛ بل لَجَّ القوم في عُتُوِّهم؛ كما حكى الله - تعالى - عنهم في قوله: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الأنعام: 136].
"وذلك أن الكفار كانوا إذا حَرثوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منها جزءًا، وللوثن جزءًا، فما جعلوا من نصيب الأوثان حفظوه، وإن اختلط به شيء مما جعلوه لله، رَدُّوه إلى نصيب الأصنام، وإن وقع شيء مما جعلوه لله في نصيب الأصنام، تركوه فيه، وقالوا: الله غني، والصنم فقير.
وقد أقسم - جل وعلا - على أنه يسألهم يوم القيامة عن هذا الافتراء والكذب، وهو زعمهم أن نصيبًا مما خَلَقَ اللهُ للأوثان التي لا تنفع ولا تضر، في قوله: ﴿ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾ [النحل: 56]، وهو سؤال توبيخ وتقريع"؛ انتهى من "أضواء البيان" (2/378).
وقد يظن بعض الذين نشؤوا في الإسلام، ولم يعرفوا شيئًا من أمر الجاهلية: أن مظاهرها قد وَلَّتْ إلى غير رَجْعة، وأن سماتِ أهلها أبعَدُ ما تكون عن أفراد المجتمع المسلم.
وإنما نشأ ظنُّهم الباطلُ من الجهل المُفْرِط بحقيقة ما كان عليه أهل الجاهلية، والغفلةِ الشديدة عن ماهية دين الإسلام، ومقتضيات لا إله إلا الله ولوزامها.
ومن ثَمَّ؛ فلا عجب أن تظهر طائفة من بني جلدتنا، يَتَسَمَّى أهلُها بأسمائنا، وينتسب المُنْتَمون لها إلى ديننا، فتُحيي - شعرتْ أو لم تشعر - ما انْدَرَس من معالم الجاهلية، وتُخْلِص في نَشْره، والذِّب عنه، وتزيينه للناس بكل ما أوتيتْ من جَدَل، وإلباسه ثوبَ الرقي والتمدن، والحضارة والتقدم، وربما زادتْ في غَيِّها، وتمادتْ في إضلالها وتلبيسها، فاستخدمتْ بعض مَن باع آخرتَه بدنيا غيره، فجادل بالقرآن عن باطلها، وأَصَّل بالسُّنة المطهرة مُروقها!
ولا تخفى على عليم اللسان طرائقُ تحريف النصوص عن معناها، وصَرْفها إلى غير ما أنزلتْ إليه، وحَمْلها على غير مراد الشارع منها، لا سيما عند فُشُوِّ الجهل ورئاسة أهله، ورفْع العلم وقَبْض حَمَلَتِه.
ومن الأباطيل المَمْجُوجة التي سعتْ تلك الطائفةُ إلى نشرها، ودَأَبَت - ترسيخًا لها في الأذهان - على تَكرارها وترديدها: أن الأحكام الشرعية تُعْرَض ولا تُفْرَض، وأن المُطالِبين بإلزام الناس بها هم ثُلَّة من المُتَنَطِّعين، وشِرْذِمة من المُغالين، يريدون حَمْل الناس على ما هم فيه بالخِيار، ويَبْغُون التضييق عليهم فيما وَسَّع الشرع.
ولا ريب في كذب ما ادَّعَوْه، وبُطلان ما راموا إثباته؛ فقد تعاضدَتِ النصوص الشرعية وتواطأَتْ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود الشرعية، وغير ذلك من أمور السياسة الشرعية، والقضاء، والحِسْبة، مما استفاض ذِكْرُه وبيانُه في تصانيف الفقهاء، بل أفردوه - لعظيم شأنه وخطره - بالتصنيف، حتى أكثروا، وخَصُّوا بعض مباحثِه بالتأليف؛ زيادةً في التحرير، وحَلاًّ لمُشْكِل النوازل.
ولا أريد في هذا المقال البَسْط في إثبات هذه الحقيقة الشرعية الراسخة، ولا دَحْضَ أوهام مُعارضيها التي لا ترقى إلى مَصَافِّ الشُّبهات، ولا تُصَنَّف ضمنها.
ولكني أريد تَبْكِيت القوم وتَقْريعهم على ما ارتضوا نِسْبَتَه لله - تعالى - ونَزَّهوا البشر منه، ناسجين في صنيعهم هذا على منوال المشركين الأوائل من العرب الجاهليين.
ولا أزعم أنهم يتعمَّدون اتِّباع سُننهم، والسيرَ على دَرْبهم، واحتذاءَ حَذْوهم؛ فمَن يأنف من التأسِّي بخير البشر، ويتعالى عن الاقتداء بخير جيل عرَفتْه البشرية؛ لا لشيء إلا لكونهم قد نشؤوا في صحراء مُقْفِرة، وبين قوم أَجْلاف، لا يكاد يُذْكَر لهم رصيدٌ ذو بال من الحضارة المادية، سيشمخ بأنفه من باب أولى عن اتخاذ العرب الجاهليين، بكل ما عندهم من مساوئَ فكريةٍ، واجتماعية، وخُلقية، طهَّرهم الإسلامُ منها؛ أُسْوَةً، ويَتَنَكَّب تَقَصُّد اقتفاء آثارهم.
لكن الإعراض عن الذِّكْر يؤول بأدعياء الحضارة والتَّمَدُّن إلى حال من النكوص، يَتَعَذَّر على العاقلِ تَصَوُّرُها، ولا يمكن تعليلها إلا بطَمْس الفطرة، وفقدان البصيرة.
ويحق لنا أن نسأل - على سبيل التنزُّل - أولئك النَّوْكى أسئلةً، لا إخالهم يخرجون منها إلا بإظهار مكنونات صدورهم، ومطويات قلوبهم:
لماذا يكون ما وضعه البشر - وهم المتَّصفون بصفات لا تُحصى من العجز والنقص - من القوانين أمرًا مُلْزِمًا لا مَحيد عنه، ولا مَناص منه، ويكون شرع الله - تعالى - خيارًا من الخيارات، مَن شاء أخذ به، ومَن شاء تركه؟!
لماذا لا يكون القانون الوضعي اختياريًّا، مَن شاء عمل به، ومَن شاء تركه؟!
ألستم تَدَّعون الحياد والموضوعية؟! فلماذا لا تعدلون - أستغفر الله - بين الخالق والمخلوق، فتُعْطُون الخالق من الحق ما تُعْطون المخلوقين؟!
لماذا تنحازون لنتاج عقول المخلوقين من أمثالكم، وتضطهدون شرعًا حكيمًا نزل من عند ربِّكم؟! أهذه أبجديات الحياد والموضوعية التي صَمَمْتُم آذانَنا بها؟! أم أنكم تكرهون أن تجعلوا لحُكم البشر ما جعلتموه لحُكم الله - تعالى - من المنزلة؟!
هذه أسئلة تَرِد على العقول بداهة، إزاء صنيع أولئك القوم، من باب محاكمتهم بما يَدَّعون، ورد باطلهم من جنس ما يزعمون، وإلا فالمؤمن لا يَقبَل عقد المقارنة بين شرع الله وشرائع المخلوقين، ولا يرضى بتسوية حكم الحكيم العليم، بحكم الظلوم الجهول؛ بل لا يجد لنفسه خِيَرَةً أمام حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
مواقع النشر (المفضلة)