بسـم الله الرَّحمـن الرَّحيـم
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
قال العلاَّمـة ابنُ عُثيمين - رحمه الله - عند ختامِ تفسير قصَّة موسى والخَضِر - عليهمـا السَّلام - في سورة الكهف:
(وقد ذكر شيخنا عبد الرَّحمن بن سعدي - رحمه الله تعالى - في تفسيره " تيسير الكريم الرَّحمن" فوائدَ جمَّة عظيمة في هذه القصَّة، لا تجدها في كتاب آخر؛ فينبغي لطالب العلم أن يراجعها؛ لأنَّها مفيدةٌ جداً).
فأحببتُ في هذه الصَّفحة أنْ أنقلَ تلك الفوائد؛ راجيةً أن ينفع الله بها.
قال العلاَّمة السَّعـديُّ - رحمه الله -:
وفي هذه القصَّة العجيبة الجليلة، من الفوائد، والأحكام، والقواعد، شيءٌ كثير، ننبِّه على بعضه بعون الله.
فمنها: فضيلةُ العلم، والرِّحلة في طلبه، وأنَّه أهمُّ الأُمور؛ فإنَّ موسى -عليه السَّلام - رحل مسافة طويلة، ولقي النَّصَب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل، لتعليمهم وإرشادهم، واختار السَّفر لزيادة العلم على ذلك.
ومنها: البداءة بالأهمِّ فالأهمِّ؛ فإنَّ زيادة العلم وعلم الإنسان، أهمُّ من ترك ذلك، والاشتغال بالتعليم من دون تزوُّد من العلم، والجمع بين الأمرين أكمل.
ومنها: جواز أخذ الخادم في الحضر والسَّفر؛ لكفاية المؤَن، وطلب الرَّاحة، كما فعل موسى.
ويُتابع - رحمه الله - ذكرَ الفوائد في تلك القصَّة، فيقول:
ومنها: أنَّ المسافر لطلبِ علم أو جهاد أو نحوه، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه، وأين يريده؛ فإنَّه أكمل مِن كَتْمه؛ فإنَّ في إظهاره فوائدَ من الاستعداد له عدَّته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهارًا لشرفِ هذه العبادة الجليلة، كما قال موسى: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}، وكما أخبر النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه حين غزا تبوك بوجهه، مع أنَّ عادته التَّوْرِيةُ، وذلك تَبَعٌ للمَصلَحة.
ومنها: إضافة الشرِّ وأسبابه إلى الشَّيطان، على وجه التَّسويل والتزيين، وإنْ كان الكلُّ بقضاء الله وقدَرِه؛ لقول فتى موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}.
وما زلنا مع تلكَ الفوائـد، في روضةٍ عيشُها أخضر، وهواؤهـا المِسكُ والعنبـر، وما زلنا نتفيَّـأ ظلالها، ولا نملُّ وِصالَها.
ومنها: جواز إخبار الإنسان عمَّا هو من مقتضى طبيعة النَّفس، من نَصَب، أوجوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخُّط، وكان صِدْقًا؛ لقول موسى: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}.
ومنها: استحباب كونِ خادمِ الإنسانِ ذكيًّا فطِنًا كيِّسًا؛ ليتمَّ له أمره الَّذي يُريدُه.
ومنها: استحباب إطعامِ الإنسانِ خادمَه مِنْ مأكله، وأكلهما جميعًا؛ لأنَّ ظاهرَ قولِه: {ءاتِنَا غَدَاءَنا} إضافة إلى الجميع، أنَّه أكل هُو وهو جميعًا.
ويُواصل الشَّيخ السَّعدي -رحمه الله- ذكرَ تلك الفوائد الحِسان، المُزدانة بفرائدِ اللؤلؤ والمرجان، فيقول:
ومنها: أنَّ المعونةَ تَنـزِل على العبدِ على حَسَب قيامِه بالمأمور به، وأنَّ الموافِق لأمرِ الله يُعان ما لا يُعان غيرُه؛ لقوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}، والإشارة: إلى السَّفر المجاوِز لِمَجْمَع البَحْرَيْنِ، وأمَّا الأوَّل؛ فلم يَشْتَكِ منه التَّعب، مع طوله؛ لأنَّه هو السَّفر على الحقيقة، وأمَّا الأخير؛ فالظَّاهر أنَّه بعض يومٍ؛ لأنهم فقدوا الحوتَ حتَّى أوَوْا إلى الصخرة؛ فالظَّاهر أنَّهم باتُوا عندها، ثمَّ ساروا مِن الغد، حتَّى إذا جاء وقت الغداء؛ قال موسى لفتاه: {ءاتِنَا غَدَاءَنا}؛ فحينئذ تذكر أنَّه نسيه في الموضع الَّذي إليه مُنتهى قصدِه.
ومنها: أنَّ ذلك العبد الَّذي لَقِياه ليس نبيًّا، بل عبدًا صالحًا؛ لأنَّه وصفه بالعبوديَّة، وذكر منَّة اللهِ عليه بالرَّحمة والعلم، ولم يذكرْ رسالته ولا نبوَّته، ولو كان نبيًّا؛ لذَكَرَ ذلك، كما ذكر غيره. وأمَّا قوله في آخر القصَّة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}؛ فإنه لا يدلُّ على أنَّه نبيٌّ، وإنَّما يدلُّ على الإلهام والتَّحديث، كما يكون لغير الأنبياء، كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}.
فقبل أنْ أستكمل الفوائدَ الَّتي بدأتُها؛ أحببتُ أنْ أشيرَ إلى أنَّ كونَ الخضر -عليه السَّلام- نبيًّا أو لا: أمرٌ مختلَفٌ فيه، وسأكتفي بإيرادِ كلام الحافظ ابن كثيرٍ -رحمه الله - في ذلك.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله - في "قصص الأنبياء":
"وقد اختُلِفَ في الخضر: اسمه، ونسبه، نُبُوَّته، وحياته إلى الآنَ على أقوال ".
وقال -رحمه الله - في "تفسير القرآن العظيم"، عند تفسير قوله تعالى: {وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي}:
"وفيه دلالة لِمَنْ قال بنُبُوَّة الخضر -عليه السّلام-، مع ما تقدَّم مِن قوله: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}. وقال آخرون: كان رسولاً، وقيلَ: بل كانَ مَلَكًا، نقَلَه الماورديُّ في تفسيره، وذهَبَ كثيرونَ إلى أنَّه لَمْ يكُنْ نبِيًّا، بل كان وَلِيًّا، فالله أعلم".
وقال في " قصص الأنبياء ":
"وقصارى الخضر -عليه السَّلام- أنْ يكون نَبِيًّا، وهو الحقُّ، أو رسولاً كما قيل، أو مَلَكًا فيما ذُكِر".
ثمَّ قال حين ترجَمَ للخضِر -عليه السَّلام-:
"وقد دلَّ سياق القصَّة على نُبُوَّتِه مِن وُجوه:
أحدِها: قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}[الكهف:65].
الثاني: قول موسى له: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً - قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا - وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً - قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً - قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}[الكهف:66-70]؛ فلو كان وليًّا وليس بنبيٍّ؛ لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة، ولم يرُدَّ على موسى هذا الردَّ، بل موسى إنَّما سأل صحبته لينال ما عنده مِنَ العلم الَّذي اختصَّه الله به دونه؛ فلو كان غَيرَ نَبِيٍّ، لم يكن معصوماً، ولم تكن لموسى - وهو نبِيٌّ عظيم ورسول كريم واجب العصمة - كبيرُ رغبةٍ، ولا عظيم طلبة في علمِ وليٍّ غيرِ واجب العِصمة، ولَمَا عزم على الذَّهاب إليه والتَّفتيش عنه، ثمَّ لمَّا اجتمع به؛ تواضع له وعظَّمه، واتَّبعه في صورة مستفيدٍ منه، فدلَّ على أنه نبيٌّ مثله؛ يُوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خُصَّ مِن العلوم اللدُنِّيَّة والأسرار النَّبويَّة بما لم يُطلعِ اللهُ عليه موسى الكليم، نبيّ بني إسرائيل الكريم.
وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرُّمانيُّ على نبوَّة الخضر -عليه السَّلام-.
الثالث: أنَّ الخضر أقدَمَ على قتل ذلك الغلام، وما ذلك إلا للوحي إليه من الملك العلاَّم، وهذا دليل مستقلٌّ على نُبوَّته، وبرهان ظاهر على عِصمته؛ لأنَّ الوليَّ لا يجوز له الإقدام على قتل النُّفوس بمجرَّد ما يُلقى في خَلَده؛ لأنَّ خاطره ليس بواجب العصمة؛ إذ يجوز عليه الخطأ بالاتِّفاق، ولَمَّا أقَدَم الخضرُ على قتل ذلك الغلام الَّذي لم يبلغِ الحُلُم -علماً منه بأنَّه إذا بلغ يكفر، ويحمل أبويه على الكفر لشدَّة محبَّتهما له فيتابعانه عليه؛ ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مُهجته؛ صيانةً لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته- دلَّ ذلك على نُبوَّته، وأنَّه مؤيَّد من الله بعصمته.
وقد رأيتُ الشَّيخ أبا الفرج بن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نُبُوَّة الخضر وصحَّحه، وحكى الاحتجاج عليه الرُّمانيُّ -أيضاً-.
الرَّابع: أنَّه لَمَّا فسَّر الخضر تأويل الأفاعيل لموسى، ووضَّح له عن حقيقة أمره وجلَّى؛ قال بعد ذلك كلِّه: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}[الكهف:82]؛ يعني: ما فعلته من تلقاء نفسي، بل أمرٌ أُمِرْت بِهِ، وأوحي إليَّ فيه.
فدلَّت هذه الوجوه على نبوَّته، ولا ينافي ذلك حصول ولايته، بل ولا رسالته؛ كما قاله آخرون وأمَّا كونه ملكاً من الملائكة؛ فقول غريب جداً.
وإذا ثَبَتَتْ نُبُوَّته - كما ذكرناه-؛ لم يبقَ لِمَنْ قال بولايته وأنَّ الولي قد يطَّلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشَّرع الظاهر مستندٌ يستندون إليه، ولا معتمدٌ يعتمدون عليه" اهـ.
والله الموفِّق، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله، وصحبِه، وسلَّم.
مواقع النشر (المفضلة)