بسم الله الرحمن الرحيم
البَر والبُر والبِر :
أسماء تتكون من ثلاثة حروف، ومن جذر واحد، فرق بينها حركة الأول، فتفرقت مدلولاتها، وأصبحت أسماء لأشياء مختلفة متباعدة0
البَر (بالفتح): خلاف البحر0
البُر (بالضم): القمح0
البِر (بالكسر): الإحسان إلى الضعيف والكبير والعاجز عن الكسب0
ما الذي يجمع بين الثلاثة؟
أم أن العرب لا تحسن الاشتقاق والبناء من جذور لغتها؛ لتصف الواقع من حولها، وتسمي الأشياء بمسمياتها؟
العرب تعاملت مع الجذور على معان معروفة لديها، وراسخة في نفس أهلها عندما سمت هذه الأسماء0
كيف لنا أن نعرف هذه المعاني؟
ليس من سبيل لإحياء الموتى، وسؤالهم: لماذا قلتم كذا وكذا؟ 000 لا سبيل إلى ذلك إلا دراسة كل مكونات كل جذر، واستنباط المعنى الذي يجمعها جميعًا 00 فهم لم يتركوا شيئًا مكتوبًا نرجع إليه 000 والعهد الذي بينا وبينهم طويل، والزمن بعيد 000 توارث الناس حفظ الكلمات ومدلولاتها، دون أن يعرفوا سر تسمياتها000 مهمة تركت لعلماء اللغة في هذه الأمة0
فمن يشمر عن الذراع ويشد الهمة ويكشف لنا هذه الأسرار؟
مهمة صعبة وشاقة 000 وهل طرق العلوم كلها إلا طرق صعبة وشاقة0
الملاحظ في استعمال الجذر (برر) أنه كان للأشياء التي فيها أمان من خطر يقابلها0
فالبَر (بالفتح): هو أمان للناس من البحر، ومن كان في البحر وأتته العواصف من كل جانب، ولعبت به الأمواج، فليس له أمنية عند ذلك إلا أن يبلغ البر، ويدعو الله مخلصًا له الدين لينجيه ويبلغه البر، ليكون آمنًا مع الناس الذي هم آمنون عليه0
أما البُر (بالضم): فهو القمح الذي جعله الله صالحًا للخزن سنوات طويلة دون أن يفسد، فهو الأمان لهم في الأشهر والفصول التي لا يكون فيها طعامًا، وأمانًا في سنين المجاعة، ولا أدل على ذلك مما حصل لأهل مصر في زمن نبي الله يوسف عليه السلام، وكيف خزنهم للبُر في سنابله حفظهم من هلاك محقق كان سيقع بعد سبع سنين عجاف من القحط00 فكانت الرؤيا من الله سبحانه وتعالى لمن بيده القدرة على تنفيذ الأمر لحفظ أهل مصر، أي لملكها0
أما الفواكه والخضار فهي لا تصلح للخزن، وإن عولجت لأجل الخزن فصلاحها لا يكون طويلاً كما يبلغه البر في صلاحه الذي يمتد عشرات السنين0 وكمياتها لا تكفي مؤونة لسنين طويلة، وجعله في سنابله أدوم لصلاحه؛ لتفرق الحب بعضه عن بعض، فإن فسدت واحدة لا ينتقل إلى الأخرى0 وليكون ما يبقى من السنابل بعد الحب علفًا لأنعامهم، والحَب (بفتح الحاء) يطلق على ما يثبت من الثمار في عصفه زمنًا طويلا بغير فساد، خلاف ثمار الفاكهة والخضار، والحُب (بضم الحاء): يطلق على ما يثبت من المودة في القلب زمنًا طويلاً00 وهذا هو الذي يجمع بين الحُب والحَب أيضًا، وهما من جذر واحد0
أما البِر (بالكسر): فيطلق على ما يقدم من النفقة للكبير العاجز عن الكسب، والفقير المحتاج، وفيه أمان له عند الكبر، أو في حال العجز عن الكسب، وأحق الناس بذلك الوالدان، والأقربون ثم الأولى فالأولى0
وكل عمل صالح يثاب عليه الإنسان هو من البِر، لأنه أمان له يوم القيامة من عذاب الله، قال تعالى : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة0
هل عرفت الآن العلاقة بين البَر والبُر، والبِر؟
نسأل الله تعالى لنا ولكم أن يجعلنا من البارين الآمنين في الدنيا والآخر من شر الدنيا وعذاب الآخرة0
هذه لغة العرب التي اختارها الله عز وجل لتكون وعاء لكلماته الخالدة00 مليئة بالأسرار 00 فهل من غائص يبحث عن اللآلئ في أصداف هذه اللغة العظيمة0
مواقع النشر (المفضلة)