شَبَح يَحِيقُ بهم، يتخطفهم، باتوا يخافونه، يحلمون به ليل نهار، منهم من يستيقظ من حلمه ليجد أن واقعه يحميه، ومنهم من يستيقظ ليجد أن واقعه يشكِّل كابوساً أكبر؛ إذ ليس بالإمكان الاستيقاظ من هذا الواقع، عن من أتحدث؟ أتحدث عن موظفينا، ومن أقصد بالشبح؟ أقصد البطالة التي لا مهرب منها إلا في الأمان الوظيفي.
بقلم: يحيى السيد عمر
وإبَّانَ العقد الماضي، وتحديداً في عام 2008م وما تلاه، عاش العالم أحداث أزمة مالية طاحنة، كان لها وَقْعٌ سيئ على الاقتصاد العالمي ككل، وأدَّى الضغط المادي الواقع على الشركات جراء هذه الأزمة إلى البحث عن حلول سريعة، ولم تَرَ أغلب تلك الشركات كبيرة كانت أم صغيرة من حل سريع غير تسريح بعض موظفيها، في محاولة لضرب عصفورين بحجر واحد؛ العصفور الأول هو التخلص من العمالة التي أصبحت زائدة في ظل الركود الاقتصادي الحاصل، والثاني توفير بعض السيولة المالية، وتخفيف النفقات؛ هذا الأمر الذي أدَّى بكثير من الموظفين إلى عيش كابوس ما يسمى (بالتفنيش)، فبات الوصول إلى العمل، والجلوس على طاولة المكتب دون أن يرى الموظف ورقة الاستغناء عن الخدمة عليه نعمة كبيرة.
ولعل غياب الأمن الوظيفي وعدم استقرار الدَّخْل من أبرز نتائج العولمة؛ إذ دفعت سياسة المنافسة العالمية بالحكومات والموظفين إلى اتباع سياسات وظيفية أكثر مرونة تتسم بغياب أيِّ عقود أو ضمانات وظيفية، وهو ما يترتب عليه غياب الاستقرار الوظيفي، وهذا وفق تقرير صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعنوان عولمة ذات وجه إنساني”.
ويضع أكثر الموظفين الأمان الوظيفي في مقدمة أولوياتهم عند التقدم إلى أيِّ عمل، حتى إنهم يفضلونه عن الراتب المرتفع، متبعين المثل العربي الذي يقول: ساقية جارية أفضل من نهر مقطوع، ويعود هذا الاهتمام بالأمان الوظيفي لما يؤمِّنه من راحة فكرية ونفسية لدى الموظف، فهو الحَكَم في اتخاذ كثير من القرارات المصيرية، ولعل أهم تلك القرارات قرار الزواج، وهذا ما يتضح جلياً من خلال تأجيل الفئة الشابة لخطوة الزواج لما بعد الثلاثين من العمر؛ وذلك لعدم شعورهم بالأمان الذي يحفِّزهم على اتخاذ هكذا خطوة، ويستمرون في تأجيلها إلى أن يجدوا الوظيفة المناسبة، أو يحسوا بأن قطار العُمر سوف يفوتهم، وتضيع أحلى أيام شبابهم بين مدٍّ وجزر، فيقدمون عليها، وقد سلموا أنفسهم للأيام.
هذا من الناحية الاجتماعية أما من الناحية النفسية فقد أشار كثير من الاختصاصيين إلى أن انخفاض الشعور بالأمان الوظيفي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعدلات عالية من المشاعر السلبية كالقلق والاكتئاب وغيرها من المشاعر التي تُضعِف البنية الجسمانية، وتجعل الإنسان عُرْضَة للإصابة بأمراض قد لا تظهر إلا بعد فوات الأوان، منها القولون العصبي، الصداع، ارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب، اضطرابات الشهية وغيرها من الأمراض التي تنعكس سلباً على حياة الفرد.
لعل الشركات الحكومية هي الأكثر عناية بأمر الأمان الوظيفي الذي نراه شِبْه معدوم إن لم يكن معدوماً في الشركات والمؤسسات الخاصة، حتى إن وُجِدَ في الشركات الخاصة نراه وهمياً لا وجود له على أرض الواقع، وهذا ما يفسِّر لنا اندفاع معظم الكوادر البشرية للعمل في القطاع الحكومي، لدرجة زادت فيها مكانة الموظف الحكومي في المجتمع، فبات موظف حكومي صغير يضاهي في مكانته أعتى عتاة الإدارة في الشركات الخاصة، فهو بحسب النظرة الضيقة لمجتمعاتنا قد تمكَّن من تأمين مستقبله، وبات له مورد مالي يحميه غدر الزمن، بينما يبقى صديقنا الموظف في القطاع الخاص في مهبِّ الريح، يصارع من أجل البقاء على الكرسي الذي هو فيه، يحسب حساباً لكل عمل يقوم به، ولكل كلمة يقولها، فأيّ كلمة أو فعل لا يعجب صاحب الشركة التي يعمل فيها، قد يكون السبب في رفده وإلقائه خارجاً.
لكن هل يا ترى الأمان الوظيفي هو الميزة الذي نبحث عنها؟
قد توفِّر لنا هذا الميزة الكثير من الراحة والأمان؛ فالأمان الوظيفي يعني مورداً مالياً مستمراً يمكننا من تحمُّل أعباء فتح منزل وتكوين أسرة، كما أننا نرتاح لوجود إجازة في نهاية العام مدفوعة المصاريف، ونشعر باطمئنان أكثر عندما نعلم بأن هناك راتباً تقاعدياً نحصل عليه مدى الحياة، لكن هل يا ترى نكون بهذا الشكل قد حققنا ما نريد من هذه الحياة؟
يعتبر الأمان الوظيفي من أهم مميزات الوظيفة الجيدة، لكنه يعتبر في الوقت نفسه من أهم أسباب قتل الأحلام والأفكار، فقد أثبتت كثير من الدراسات التي أُجريت على الموظفين الحكوميين أن نسبة كبيرة منهم قد قُتِلَت فيهم روح الطموح، وسكنوا إلى مكاتبهم، وَرَضوا بما هم عليه، ولا ينتظرون سوى الراتب في نهاية كل شهر والعلاوة التي تأتيهم في نهاية كل سنة، في الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة المبدعين في القطاع الخاص؛ وذلك لارتفاع نسبة المنافسة، ومحاولة الوصول إلى مستوى تقني أو مورد مالي ثابت يحل محل الأمان الوظيفي من حيث الرؤية المستقبلية، فالموظف في القطاع الخاص يضع نُصْب عينيه دائماً أن ينفرد بنفسه، ويشكل عمله الخاص ويؤسِّس لشركته الخاصة، ولهذا قلما نجد أن موظف القطاع الخاص يستمر لمدة طويلة في مؤسسة أو جهة واحدة، بل تراه دائم السعي عن مستوى أفضل، وعن جهة عمل أكبر.
وهنا لا يمكننا أن نتجاهل المبادرات التي قامت بها العديد من المؤسسات والشركات الخاصة في مجال الأمان الوظيفي أسوة بمثيلاتها من العامة، لكنَّ هذه المبادرات اقتصرت على الشركات الكبيرة، وبقيت دون المستوى المطلوب، وحتى في المؤسسات الحكومية لا يمكننا القول: إن الأمان الوظيفي قد وصل مرحلة الكمال، فكيف يكون الأمان؟
في عصر متسارع متغير متطور لا أظن أنَّ الأمان يقتصر على مبلغ مالي يتقاضاه الفرد في نهاية حياته المهنية، أو إذا ما تعرض لحادث أثناء العمل، وإنما الأمان يكون في اكتساب المهارات والخبرات التي تفتح الأبواب أمام الباحث عن العمل، يكون الأمان بخلق عقل منفتح مبدع قادر على إيجاد الحلول لأصعب الظروف والخروج من المآزق بيسر وسهولة، وقد تعالت أصوات العَالمِينَ بأمور الإدارة لتبنِّي منهج جديد في التدريب، وذلك بالنظر إليه باعتباره تنمية لقدرات العامل، بما يسهم في تحقيق مصلحة مشتركة للعامل والمؤسسة التي ينتمي إليها في آنٍ واحد، بهذا الشكل يكون الموظف قد نال قسطاً من التدريب والمهارة يشكل رصيداً مهماً في حياته العملية، والتي من المفترض أن تكون مليئة بالانتقالات والتغييرات، ولن ترتعد فرائص موظفينا رعباً عند حدوث أيِّ أزمة مهما كان نوعها، بل قد يرى فيها الفرصة الملائمة التي يثبت فيها وجوده، ويستغل ما يكتنز في عقله من أفكار وخطط وخبرات.
لتحميل المقال بصيغة PDF يرجى الضغط على الرابط التالي:
كي-تكون-آمناً-وظيفياً
مواقع النشر (المفضلة)