+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 5 من 10
  1. #1
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    Icon3 التربية الأخلاقية في الإسلام

    بسم الله الرحمن الرحيم

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    الفصل الأوَّل : تزكية النفس

    سورة الشمس(91)

    قال الله تعالى: {ونَفْسٍ وما سوَّاها(7) فألهَمَهَا فُجورَهَا وتقواها(8) قدْ أفلحَ من زكَّاها(9) وقد خابَ من دسَّاها(10)}

    ومضات:

    ـ تقوم التربية الأخلاقية في الإسلام على تزكية النفس، الَّتي تعني التخلِّي عن الأخلاق الذميمة والعادات السيئة، والتحلِّي بكلِّ خُلُق فاضل لتصبح النفس طاهرة نقية، ويكون صلاحها في الفرد عنوان صلاح المجتمع.

    ـ تعكس هذه الآيات الكريمة حقيقة الوجود النفسي في الإنسان، فهو مخلوق ذو استعدادات متوازية لاستقبال المؤثِّرات الخيِّرة والشرِّيرة على السواء.

    ـ قد فاز من أعمل أجهزة التقاط المؤثِّرات الخيِّرة لديه فرجح خيره على شرِّه، وانعكس تزكية وتطهيراً بمحبَّة الله وذكره، وقد خاب من عطَّلها وجعل مؤثِّرات الشرِّ تغلبه، فلوَّث نفسه بالمعاصي ودنَّسها بالآثام.

    في رحاب الآيات:

    من خلال هذه الآيات الكريمة تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بأوضح معالمها، فالكائن البشري بنظر الإسلام مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعدادات، مزدوج الاتجاهات، ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه، مزوَّد باستعدادات متساوية للخير والشرِّ، والهدى والضلال، وهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شرٌّ، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشرِّ، وهذه القدرة كامنة فيه يعبِّر عنها القرآن الكريم بالإلهام تارة في قوله تعالى: {ونَفْسٍ وما سوَّاها فألْهَمَها فُجورَها وتقواها}، وبالهداية تارة أخرى في قوله تعالى: {وهديناهُ النَّجدين} (90 البلد آية 10)، فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد، والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية، إنَّما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجِّهها هنا أو هناك، ولكنَّها لا تخلقها خلقاً لأنها مخلوقة بالفطرة، وكائنة بالطبع، وكامنة بالإلهام.

    فالنفس البشرية تُخْلَق على الفطرة، وكأنَّها أرض خصبة صالحة لإنبات أيِّ بذور تُزرع فيها، وهنا يكمن دور الوالدين والعائلة والمجتمع في التأثير على شخصية الإنسان واستعداده. وحين يصبح في سنِّ البلوغ يمسك قراره بيده، فله عقله وتفكيره، وله حرِّيته ملء إرادته في زرع أرض نفسه بما شاء وكيفما شاء. فإن انتقى بذور الخير والإيمان ومحبَّة الله تعالى والخلائق، فقد نجح وأفلح في مهمَّته الَّتي خُلق من أجلها، لأنه بذلك يكون قد ربَّى نفسه ونمَّاها، حتَّى بلغت غاية ما هي مستعدَّة له من الكمال العقلي والعملي، وأثمرت بذلك الثمر الطـيِّب لها ولمن حولها. وإن هو أهمل هذا الاختيار وترك لنفسه العنان، وسار بها على درب الفساد والإفساد فقد خاب مسعاه، وفشل في مهمَّته، وخسر نفسه وأوقعها في التَّهلُكة بفعل المعاصي ومجانبة الطاعات، وبذلك يكون قد هوَّن من شأن القوَّة العاقلة الَّتي اختُصَّ بها بوصفه إنساناً، واندرج في عداد الخاطئين المسيئين لاستعمال قوانين الله.

    هناك إذن تبعة مرتَّبة على منح الإنسان هذه القوَّة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه؛ توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشرِّ على السواء. ومن رحمة الله بالإنسان أنه لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوَّة الواعية المالكة للتصرُّف وحدهما، بل أعانه بالرسالات الَّتي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، فيبصر الحقَّ في صورته الحقيقيَّة، وبذلك يتَّضح له الطريق وضوحاً كاشفاً لا خفاء فيه ولا شبهة. أخرج الطبراني عن ابن عباس t قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا هذه الآية: {ونَفْسٍ وما سوَّاها فألْهَمَها فجورها وتقواها} وقف ثمَّ قال: اللهم آتِ نفسي تقواها، أنت وليُّها ومولاها، وأنت خير من زكَّاها»، فتزكية النفس هدف من أهداف الرسالات السماوية، وغايتها الارتقاء بالطبائع الإنسانية حتَّى تصبح أقرب إلى الملائكية، وتخليص الإنسان من سيطرة سلطان الأهواء والشهوات، لتكون الفضائلُ كالصدق والأمانة، والتَّواضُع والإيثار، والاستقامة ونحوها؛ مُثُلاً عليا تقود مسيرته في الحياة، وتوجِّه سلوكه بحيث لا يخرج عن إطار التربية الأخلاقية.

    ومن خلال الفصول القادمة سنتناول بإذن الله، بعض الأخلاق، وقيمتها التربويَّة في الإسلام بشيء من التفصيل.

     
  2. #2
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: التربية الأخلاقية في الإسلام

    الفصل الثاني:

    التـواضـع

    سورة الكهف(18)

    قال الله تعالى: {واضرِبْ لهم مَثَلاً رجُلَيْنِ جعلنا لأحدِهِمَا جَنَّتينِ من أعنابٍ وحَفَفناهُما بنخلٍ وجعلنا بينهما زَرْعاً(32) كِلتا الجنَّتين آتَتْ أُكُلَها ولم تظلِمْ منه شيئاً وفجَّرنا خلالَهُما نَهَراً(33) وكان له ثمرٌ فقال لصاحبهِ وهوَ يُحاوِرُهُ أنا أكثرُ منك مالاً وأعَزُّ نَفَراً(34) ودخلَ جنَّتهُ وهوَ ظالِمٌ لنفسهِ قال ما أظنُّ أن تَبِيدَ هذه أبداً(35) وما أظنُّ السَّاعَةَ قائمَةً ولئِنْ رُدِدتُ إلى ربِّي لأجِدَنَّ خيراً منها مُنْقَلَباً(36) قال له صاحبُهُ وهوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفرْتَ بالَّذي خَلَقَكَ من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ سوَّاكَ رجُلاً(37) لكِنَّا هوَ الله ربِّي ولا أُشركُ بربِّي أحداً(38) ولولا إذْ دخلتَ جنَّتَكَ قلتَ ما شـاءَ الله لا قوَّة إلاَّ بالله إن تَرَنِ أنا أقلَّ منكَ مالاً وولداً(39) فعسى ربِّي أن يُؤْتِيَنِ خيراً من جنَّتِكَ ويُرْسِلَ عليها حُسْبَاناً من السَّماءِ فتصبِحَ صَعيداً زَلَقاً(40) أو يُصبحَ ماؤُهَا غَوراً فلن تستطيعَ له طَلَباً(41) وأُحيطَ بثمرِهِ فأصبحَ يُقلِّبُ كفَّيهِ على ما أنفقَ فيها وهي خاويةٌ على عُرُوشِهَا ويقولُ ياليتني لم أُشْرِكْ بربِّي أحداً(42) ولم تكنْ له فئةٌ ينصرونَهُ من دُونِ الله وما كان مُنتصراً(43) هُنالِكَ الوَلايَةُ لله الحقِّ هو خيرٌ ثواباً وخيرٌ عُقْباً(44)}

    ومضات:

    ـ هذه قصَّة إنسان قَوَّم نفسه على أساس ما يملكه، من أموال وذريَّة وعقارات، ولبس رداء الغرور والأماني، وكأنَّ الله تعالى يُعجِزُهُ أن يحصي ممتلكاته، وأن يقضي عليها بالدَّمار والزوال، عقوبة له على تجبُّره وتعاليه.

    ـ يجب أن نقف دائماً متواضعين على أعتاب الله عزَّ وجل، معترفين له بالقدرة على العطاء والمنع، فإن أعطانا شكرنا، وإن مَنَعَنَا صبرنا، له الولاية والأمر، وعلينا الامتثال والصبر.

    في رحاب الآيات:

    هذه الرائعة القرآنية تقدِّم لنا عرضاً تصويرياً لما ينتاب الإنسان من غرور أو تكبُّر عند شعوره بالغنى والجاه، تلك الظاهرة الَّتي لا تزال تتكرَّر في حياة الإنسان ما دامت الحياة قائمة. إنها ملحمة الوجود تُختَزَل في أسطر قليلة تصوِّر الحرب الضروس بين الخير والشرِّ، بين من انتمى إلى جناب الرحمن، وبين من انحاز إلى مكر الشيطان. وهي قصَّة تضعنا على مفترق طريقين، ثمَّ تبيِّن لنا بوضوح نهاية كلِّ طريق منهما، طريق الأمن والأمان الموصل إلى الله، وطريق الشرِّ والفساد الموصل إلى ظلمات بعضها فوق بعض، وما على الإنسان إلا أن يختار.

    إنها قصَّة الإنسان صاحب الثروة والمال الوفير، وقد ظنَّ أنه ملَك الدنيا، فلا فقر يؤرِّقه ولا تعاسة تصيبه بعد اليوم، ونسي أن الكثير من الأغنياء المترفين فقدوا ثرواتهم بين عشيَّة وضحاها لأسباب مختلفة، وأن المرء مهما اجتهد في توزيع أمواله ضمن استثمارات مختلفة، تحسُّباً للطوارئ المهلكة، فإنه لابدَّ أن يأتيه يوم يترك فيه ثروته، إن لم تتركه هي، ويُعْرَض على حضرة الله مجرَّداً من كلِّ شيء إلا من أعماله.

    وتبدأ القصَّة بوصف مظاهر الازدهار والثَّراء، فالدنيا مقبلة، والنعمة موفورة يملكها رجل أفاء الله عليه من خيره لعلَّه يتذكَّر ويشكر. امتلك جنَّتين ارتفعت فيهما الكروم وسمقت، وتدلَّت عناقيدها كحبَّات الياقوت تسرُّ الناظرين، وتُسيل لعاب الجائعين، ومن وراء الكروم ضربت أشجار النخيل طوقاً حولها، وكأنها حارس أمين يحميها من أنظار المتطفلين، وتحت الكروم والنخيل امتدَّت النباتات تغطِّي الأرض بخضرة زُمرديَّة مبهجة للنفس، منبِّهة للحسِّ، جالبة للفرح، وبين الثمار والأشجار شَقَّ الماء مجراه على شكل نهر متموِّج يفيض بالخير على المزروعات، ويوقد فيها شعلة الحياة. كلتا الجنَّتين طرحتا محصولهما في الوقت المحدَّد دون أيِّ نقص، وعهدُنا بالأشجار أنها تعطي عاماً وتقصِّر عاماً، ولكنَّ استدراج الله لهذا المتكبِّر جعله يستوفي محصوله كاملاً عاماً بعد عام. ولمَّا التقى بصاحبه الفقير الَّذي أخذ يذكِّره بنعم الله عليه، استعلى وتكبَّر، وكان بينهما حوار يتَّسم بالغرور والجحود بنعم الله؛ من جهة صاحب المال، حيث قال وقد صَعَّر خدَّه: أنا أفضل منك بكثير، فمالي وفير ورهطي كبير، أمَّا أنت فقد أتلفت مالك في الإنفاق على الناس، فأين هؤلاء الَّذين تصدقت عليهم؟ هل يقدِّمون لك معونة في محنتك؟. ثمَّ أخذ بيد صاحبه باستعلاء وبدأ يجول به في أنحاء جنَّتيه، ونفسه قد ركبت مركب الغرور حتَّى كادت تطير؛ وقال: انظر إلى هذا النعيم هل من الممكن أن يزول؟ وما لي أراك تحدِّثني عن الآخرة، وعن قيام السَّاعة والحساب؟ إنني أستبعد هذا الأمر، وهل معك دليل على صدقك؟ ولنفرض أن هذا حدث، وأنني رجعت إلى ربِّي، هل تظنُّ أنه سيحرمني بعد أن ملكت كلَّ هذا في الدنيا؟ لا بل إنه سيعطيني بدل الجنَّة جنَّات، وما الحياة الدنيا إلا عنوان للآخرة المزعومة. قال العبد المؤمن محاوراً متأنِّياً علَّه يحرِّك ولو قليلاً من الإيمان في قلب صاحبه: هل نسيت الخالق الَّذي أنعم عليك بهذا النعيم، وهل أنكرت قيام الساعة الَّتي أخبرنا الله بها على لسان أنبيائه؟ هل نسيت كيف خلقك الله ولم تكُ شيئاً؟، لقد خلقك من مكوّنات التراب ثمَّ جعلك نطفة في قرار مكين، ثمَّ حوَّل هذه النطفة المهينة إلى إنسان سويٍّ قادر مقتدر، فإذا به يكفر بنعم خالقه؛ أمَّا أنا فإن لي من إيماني الكفاية، وأقولها معترفاً منيباً بأن الله هو ربِّي وخالقي ومالك أمري، وأنا أنزِّهه عن أن أشرك به مالاً أو ولداً أو حبّاً للدنيا. ثمَّ يخاطبه بلسان المعلِّم الرؤوف الَّذي يمدُّ يد المساعدة لمن جرفه تيَّار الحياة، يبثُّ تعاليمه بحبٍّ ورأفة، فيقول لصاحبه: هَلاَّ إذ دخلت جنَّتك قلت: ما شاء الله لا قوَّة إلا بالله، فالخير كلُّه بيده، وهو وحده الخالق القادر؛ إنك تراني فقير الحال، قليل المال والعيال، ولكنَّ ثقتي بالله لا حدود لها، وهو قادر على أن يعوِّضني خيراً من جنَّتك، وعندي من اليقين ما يملأ قلبي بأن أموالك تلك فتنة لك، وأنَّ الله قادر على إبادتها حين يشاء، فقد يرسل عليها مطراً يقتلع نباتاتها وتصبح أرضها طيناً خاوية، أو أن تغور مياهها في باطن الأرض، فلا تستطيع الحصول عليها مهما بذلت من مال وجهد، فتجفَّ أشجارها وتفقد خضرتها وحياتها.

    ويُسدل الستار على ذلك الحوار، وفي نفس السامع ما فيها من الرهبة والخشية من قدرة الله تعالى، ويُرفع ليقع البصر على مشهد آخر يصوِّر الوجه المناقض للمشهد الأوَّل، فالأوَّل فيه إشراقة الحياة، وسحر الجمال، والثاني مشى فيه الخراب والدمار حتَّى لم يدع بقعة أو زاوية إلا وانساب فيها. لقد نزلت عقوبة الله بالمتكبِّر كما توقَّع العبد الصالح، بإتلاف جنَّتيه، فأصبح عاليها سافلها، وقد تصدَّعت جدرانها، وذوى زرعها فأصبحت أثراً بعد عين. ودخل المغرور جنَّته فلم يجد إلا بواراً وخراباً، فصار يُقلِّب كفَّيه حزناً وأسفاً على ما أنفق فيها من مال وما بذل من جهد، وعلى ما فرَّط في حقِّ ربِّه. عند ذلك فقط اهتزَّت فطرته النائمة، واستيقظ ضميره الوسنان، فأرسل موجات صوتية تنعقد حروفاً لاكها لسانه في مرارة: (ياليتني لم أشرك بربِّي أحداً، ياليتني لم أغترَّ بمالي وسلطاني، ياليتني...) ويتلفَّت حواليه ليلتمس ولو صديقاً واحداً من الرهط الكبير الَّذي كان يحفُّ به فلا يجد أحداً، إنه رهط مزوَّر، كان منتفعاً بخيراته وبساتينه، واليوم وقد اندثر النعيم، فقد اندثر معه كلُّ شيء. إنها غاية في الهزيمة والخيبة، حيث لا مال ولا أهل ولا نفوذ ولا سلطان؛ ولم يبقَ سوى شبح إنسان يقف ذليلاً أمام خالقه، مجرَّداً من زينة الدنيا وزخرفها، لا يملك سوى ذنوبه وتقصيره، فإن شاء الله غفر له، وإن شاء عذَّبه ولن يجد من دون الله نصيراً.

    من هذه القصَّة المليئة بالعبر نستخلص ما يلي:

    1 ـ إن الغرور والتسلُّط من أشدِّ الأمراض الَّتي يبتلى بها الإنسان، ولا نجد أحداً تكبَّر وتجبَّر إلا أنزل الله به العقوبة، ومرَّغ أنفه في تراب الذُّل والهوان.

    2 ـ إن تعلُّق الإنسان المفرط بماله يدخله في دائرة الشرك بالله، ويجعله يحسب نفسه وكأنَّه صاحب القرار من دون الله تعالى، فيعطي لماله الضمان بالسَّلامة المطلقة، ويعطي لنفسه الوعد بالمزيد من المال في الدار الآخرة.

    3 ـ يجب أن يملك الإنسان المال ولا يجعل المال يتملَّكه، وهذا مرهون بتقوية الصلة بالله، فلا مشيئة له إلا بأمره، ولا قوَّة له إلا من خلال تأييده.

    4 ـ إذا حلَّت النكبة بمؤمن صالح تقيٍّ هبَّ إخوانه وأحبابه لنجدته وعونه، فتنقلب عليه برداً وسلاماً وكأنَّها لم تكن. ولكن إذا نزلت النازلة بالجبَّار المتغطرس، انفضَّ عنه أصدقاء المصلحة، وقرناءُ السوء، ليبقى في الساحة وحيداً، طريداً، منبوذاً يتجرَّع غصص النكبة وحده فلا تجده إلا وقد انهار.

    5 ـ الولاية لله الواحد الأحد، مالك الأكوان، بيده مقادير كلِّ شيء، وهو على كلِّ شيء قدير، ولا حول للمخلوق ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.

    سورة الإسراء(17)

    قال الله تعالى: {ولا تمْشِ في الأرضِ مَرَحاً إنَّك لن تَخْرِقَ الأرضَ ولن تَبْلُغَ الجبالَ طُولاً(37) كلُّ ذلك كان سيِّئُهُ عندَ ربِّكَ مكروهاً(38)}

    / ومضات:

    ـ حين يخلو قلب الإنسان من الشعور بالخالق المعطي، تأخذه الخُيَلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان أو جمال، ولو أيقن أن ما هو عليه هو من فضل الله تعالى وممَّا منحه إيَّاه من نِعَم، لحدَّ من كبريائه وخفَّف من غلوائه، ومشى على الأرض هوناً وتواضعاً.

    ـ التواضع أدب مع الله وأدب مع الناس، وهو أجمل الصفات الَّتي يمكن أن يتحلَّى بها الإنسان، لأنه مرآة صافية تكشف كوامن النفس الطيِّبة.

    ـ إن الله تعالى يكره صفتي التكبُّر والاستعلاء، الَّلتين ترتكزان على الأنانية المفرطة وحبِّ الذَّات، لأنهما تسيئان للمجتمع الإسلامي المبني على التآلف والتحابب والتعاون، والَّذي لا مكان فيه للغطرسة والزَّهو والعجرفة.

    / في رحاب الآيات:

    يمشي المرء مَرَحاً عند شعوره بالتفوُّق على الآخرين، ناسباً الفضل في ذلك لنفسه، ناسياً من أعطاه القوَّةعلى التميُّز والتفوُّق، وهذا ما يوقعه في العُجْبِ والكبرياء والمفاخرة، ويعيق جهوده عن الحصول على المزيد من المزايا، ويشـلُّ حركته عن تقديم المزيد من العطاء. والقرآن الكريم يجابه المتطاول المختال بحقيقة ضعفه وعجزه وضآلته بقوله: {إنَّك لن تَخْرِقَ الأرضَ ولن تَبْلُغَ الجبالَ طُولاً}. فالإنسان بحجمه ضئيل هزيل، لا يبلغ بالقياس إلى الأجسام الضخمة شيئاً، إنما هو قويٌّ بقوَّة الله، عزيز بعزَّته، كريم بروحه الَّتي نفخها فيه، وبالعقل الَّذي وهبه إيَّاه، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه.

    وهذا التواضع الَّذي يدعو إليه القرآن هو أدب روحي مع الله، وأدب اجتماعي مع الناس، وما يميل عن هذا الأدب إلى الخُيَلاء والعُجْب، إلا إنسان ذو نفس فارغة من حبِّ الله، وعقل جاحد لا يجيد وضع الأمور في موضعها الصحيح. جاء في الحديث الشريف: «من تواضع لله رفعه، فهو في نفسه حقير، وعند الناس كبير، ومن استكبر وضعهُ الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير» (أخرجه أبو داود) وقال صلى الله عليه وسلم : «الاختيال الَّذي يَبْغُضُ الله، الخُيَلاءُ في الباطل» (أسنده أبو حاتم محمَّد بن حِبَّان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه). والله تعالى يمقت صفات الكِبْر والعُجْب بالنفس والتكبُّر على مخلوقاته، ومن يتَّصف بها فهو مكروه منبوذ من حظيرة قدسه. ولهذا ورد في الأثر: (أقسم الربُّ القدُّوس أن لا يدخل حضرته من كان من أرباب النفوس). فما هو الربح الَّذي يجنيه من خسر الله؟ وما أجمل قول ذلك العالم العارف بالله الَّذي قال مناجياً ربَّه سبحانه: [إلهي ماذا وَجَدَ من فقدك وماذا فَقَدَ من وجدك]؟. فمن خسر الصلة بالله خسر كلَّ شيء وفاته كلُّ خير، ومن حصل على رضا الله فقد حصَّل كلَّ شيء وجنى الربح الأعظم في هذه الحياة وفي دار الخلود.



    سورة فاطر(35)

    قال الله تعالى: {من كان يُريدُ العزَّة فلله العزَّة جميعاً إليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعملُ الصَّالحُ يرفَعُهُ والَّذين يَمْكُرون السَّيِّئاتِ لهم عذابٌ شديدٌ ومَكرُ أولئك هو يَبُورُ(10)}

    ومضات:

    ـ تكمن العزَّة الحقيقية في الركون والرجوع إلى الله تعالى صاحب العزَّة والجاه، وكلُّ من يتمسَّك بغيره وينشد منه القوَّة والعزَّة فإنـَّما يتمسَّك بالوهم والسراب ومآله إلى ذلٍّ وهوان.

    ـ درب العزَّة يمهِّده العمل الخيِّر المنتج البنَّاء، ويزيِّنه ورد الكلام الحلو المعسول.

    ـ لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وعلى الباغي تدور دوائر العذاب في الدنيا والآخرة.

    / في رحاب الآيات:

    إن من صفات الله تعالى العزَّة والقوَّة، فإذا تقرَّب العبد من ربِّه طاعةً ومحبَّة وعملاً، أحبَّه الله، وأسبغ عليه ظلالاً من صفاته. فالمؤمن عزيز بالله، ولا عزَّة له بغيره، وكلُّ من يريد هذه العزَّة فعليه أن يطلبها من مصدرها؛ من الله لا من أحد سواه، فالله عنده خزائن السموات والأرض، فهو موجدها وهو المالك الأصلي لها، ولا يُلْتَمَس ذلك من غيره، قال بعض العارفين: [من أراد عزَّ الدارين فليطع العزيز] ولعزَّة المؤمن وجه ناصع يتجلَّى في تواضعه لمخلوقات الله، وحسن معشره معهم، ومخاطبتهم بطيِّب الكلام وعذبه، ولا يقتصر الأمر على مجرَّد الكلام والألفاظ الجميلة، بل يجب أن يقترن بحسن معاملتهم، ومدِّ يد المعونة لهم، وإسداء النصيحة، والبذل من أجلهم، والتضحية في سبيلهم، وهكذا يصعد العمل الصالح إلى عنان السماء، ممزوجاً بطيِّب الكلام ومعسوله، ليجد أبواب السماء مفتَّحة له، وصحائف القبول مشرَّعة له. وكم أضاع أقوام حُسن صنائعهم بقبائح ألفاظهم، فحبطت أعمالهم لدى مولاهم، ونفرت منهم قلوب الخلائق، جاء في الحديث الشريف: «لا يقبل الله قولاً إلا بعمل، ولا يقبل قولاً وعملاً إلا بنيَّة، ولا يقبل قولاً وعملاً ونيَّة إلا بإصابة السُّنة» (أخرجه أبو القاسم ومجاهد من حديث ابن عباس t ) وقال بعض المحبِّين: [إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع، لأن من خالف قولُهُ فعله فهو وبال عليه].

    وصلاح العمل يكون بالإخلاص فيه، وما كان من هذا القبيل، قَبِلَه الله وأثاب عليه، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه، بل عليه العقاب الشديد، فالصَّلاة والزَّكاة وأعمال البرِّ إذا فُعِلَت مراءاة للناس لا يتقبَّلها الله، قال تعالى: {فويلٌ للمُصلِّين * الَّذين هم عن صلاتِهِمْ ساهون * الَّذين هم يُراؤُونَ * ويمنعُونَ الماعون} (107 الماعون آية 4-7) والَّذين يمكرون السيئات يمكرونها طلباً للعزَّة الكاذبة، والغلبة الموهومة وبثَّاً للفتنة والتفرقة، وقد يبدو في الظاهر أنهم أعزَّاء أقوياء، ولكن هذا وهمٌ ليس له سند من الحقيقة، لأن القول الطيِّب هو الَّذي يُؤْلَف، والعمل الصالح هو الَّذي يثمر، وبهما تكون العزَّة بمعناها الواسع الشامل، أمَّا المكر السيء قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزَّة، ولو حقَّق القوَّة الطاغية الباغية في بعض الأحيان، إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العقاب الشديد. ذلك وعد الله، ولا يخلف الله وعده، وإن أمهل الماكرين حتَّى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم.

    سورة البقرة(2)

    قال الله تعالى: {وإذ قُلنا ادخُلُوا هذهِ القَريَةَ فَكُلُوا منها حَيثُ شِئتُم رغَداً وادخُلُوا البَابَ سُجَّداً وقُولُوا حِطَّةٌ نغفِر لكم خَطاياكُم وسَنَزيدُ المُحسِنينَ(58)}

    ومضات:

    ـ لقد فتح الله تعالى القرية الَّتي أشار إليها في الآية الكريمة لبني إسرائيل، وأباح لهم الأكل من طيِّباتها بسعة ووفرة، وهذه منَّة ونعمة منه، ينبغي عليهم أن يشكروه عليها بالسجود والدعاء، والعرفان بفضله والتواضع له. وهذا يدلُّ على أن اللحظة الَّتي يكون فيها المرء في ذروة فرحه وإحساسه بالفخر والنصر؛ هي من أجَلِّ اللحظات الَّتي يلجأ فيها إلى الله تعالى طالباً منه العفو والمغفرة، متذلِّلاً بين يديه متذكِّراً ضعفه وافتقاره إليه؛ ممَّا يجعله خلوقاً منصفاً مع عباد الله لا جبَّاراً عصيّاً.

    ـ الله تعالى يوسع من فضله على من أحسن القول والعمل والنيَّة.

    في رحاب الآيات:

    تتحدَّث هذه الآية عن إحدى النعم الَّتي أسبغها الله تعالى على بني إسرائيل عندما نصرهم وفتح لهم قرية، ثمَّ أباح لهم الأكل منها بسعة وهناءة حيث شاؤوا، وأمرهم بدخولها متواضعين له، طالبين منه أن يحطَّ عنهم خطاياهم وذنوبهم، وأعطاهم وعداً بمغفرة ذنوبهم والتَّجاوز عن أخطائهم، وبشرى بزيادة عطائه ما داموا محسنين، يزدادون شكراً وتواضعاً عند كلِّ نعمة، ويستغفرون عند كلِّ خطيئة.

    فصاحب النفس المزكَّاة ينسب جميع النعم الَّتي تصيبه لفضل الله، وكلَّما ازدادت عليه زحفاً وإقبالاً، ازداد تواضعاً وشكراً، أسوة بالمزكِّي الأعظم محمَّد صلى الله عليه وسلم ، الَّذي لم يزده العزُّ إلا تواضعاً، ولم يزده التواضع إلا رفعة وعظمة. لقد عاد إلى بلده مكَّة فاتحاً، وأكرمه الله بنصرة الإسلام وإعلاء كلمته، فعندما دخلها طأطأ رأسه على ناقته تذلُّلاً لله، حتَّى كاد أن يمسَّ جبينه الشريف رحل ناقته. فهنا يكمن سرُّ عظمة الرجال القادة، ومن هنا نتبيَّن أن على الإنسان أن يقابل نعم الله بالشكر والعرفان، وطلب الغفران عن كلِّ ما يبدر منه من الهفوات والزَّلات، وأن يتحلَّى بالتواضع والاتِّزان في أحلى ساعات نجاحه، فلا يفتتن بما يحقِّقه من فوزٍ وانتصار في أيِّ مجال، ولا يدع نشوة الفخار تطير بصوابه إعجاباً بما أنجزه، فيفقد بذلك القدرة على التبصُّر والإدراك. بل إن عليه، وهو في قِمَّة نشوته وسعادته ألا ينسى فضل الله عليه الَّذي أوصله إلى الفلاح، وأن يزداد تواضعاً له، ويذكر المستضعفين في الأرض فيظلُّهم برعايته وعنايته، ويتعاون معهم على بناء المجتمع الحرِّ الكريم، وتحقيق رسالة السَّلام في زرع المحبَّة والإخاء والإعمار في كلِّ أنحاء المعمورة. وفي هذا كبح لأهوائه وتقييد لأطماعه الَّتي يمكن أن تزلَّ به إلى ما لا تحمد عُقْباه. وعليه أن يشكر المنعم الَّذي من صفاته السامية أنه يزيد النعم لمن شكر، فهو القائل عزَّ وجل: {..لَئِن شكرتُمْ لأزيدَنَّكُمْ..} (14 إبراهيم آية 7) فَحَقُّ النِّعَمِ الشكر عليها، ودوام الشكر سبب زيادتها.

     
  3. #3
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: التربية الأخلاقية في الإسلام

    الفصل الثالث:

    الأمـانـة

    سورة النساء(4)

    قال الله تعالى: {إنَّ الله يأمرُكُم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلها وإذا حَكمتم بين النَّاس أن تحكُموا بالعدلِ إنَّ الله نِعِمَّا يَعظُكُم به إنَّ الله كان سَميعاً بَصيراً(58)}

    ومضات:

    ـ الأمانة من أهمِّ المبادئ الَّتي يرتكز عليها الإسلام، ويدعو إلى أدائها لأهلها، لتكون ذمم المؤمنين بريئة من الشبهات على الدوام.

    ـ إن ما يرشدنا إليه الله تعالى (أن نحكم بالعدل) هو سياج سعادتنا ودرع أمننا وسلامنا، وهو مُطَّلع علينا ناظر إلينا، ومراقب لحسن تنفيذنا وامتثالنا لأوامره.

    في رحاب الآيات:

    الأمانة تعريفاً هي: كلُّ ما يجب حفظه وتأديته إلى أهله. فهي كلمة واسعة المدلول تشمل جميع العلاقات الإنسانية؛ فالتزام الإيمان وتعهُّده بأسباب الرعاية والنماء أمانة، وإخلاص العبادة لله أمانة، وإحسان المعاملة مع الأفراد والجماعات أمانة، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه أمانة. والأمانة والعدل دعامتان من دعائم المجتمع الفاضل، فما أكرمَ المجتمعَ الَّذي يأمن فيه الناس بعضهم بعضاً! وما أعظم المجتمع الَّذي يسود فيه العدل، فلا ظالم ولا مظلوم، ولا تجاوز على حقوق العباد. والإسلام ـ بوصفه دين الحياة القويمة والتعامل السليم بين الناس ـ يرسي دعائم الأمن الاجتماعي، فيأمر الناس جميعاً بأداء الأمانة إلى أصحابها، خوفاً من أن يَفرُط بعضهم على بعض، فتختلَّ القيم الاجتماعية، وتسود الفوضى وينقلب المجتمع إلى غابة يأكل القويُّ فيها الضعيف، وقد أكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن).

    وللأمانة أنواع: أولها وأعظمها أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد، إنها أمانة الفطرة الإنسانية الَّتي حملها الإنسان وتعهَّدها. وكذلك حفظُ المرء ما عهد الله إليه من أوامر ونواهٍ، واستعمال جوارحه ومشاعره فيما ينفعه ويقرِّبه من ربِّه. هذه الأمانة الَّتي تنبثق منها سائر الأمانات الأخرى، فمن حفظ حقَّ الله حفظ حقوق عباده، الَّتي تتطلَّب ردَّ الودائع إلى أهلها، وكتم أسرارهم، وستر عيوبهم، والبعد عن الغش في البيع، وترك التطفيف في الكيل والوزن وغير ذلك؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد وابن حِبَّان عن أنسt : «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له». ويدخل في هذا الإطار أمانة العلماء مع العامَّة، بأن يرشدوهم إلى مبادئ وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم من أمور التربية الحسنة، والكسب الحلال، ومن المواعظ والأحكام الَّتي تقوِّي إيمانهم، وتنقذهم من الشرور والآثام، وترغِّبهم في عمل الخير، وتبعدهم عن التعصُّبات الباطلة الَّتي تمزِّق صفوفهم وتضعف شوكتهم، وكذلك أمانة الزوجة مع الزوج بحفظ ماله وعرضه وسرِّه.

    أمَّا الأمر بالعدل بين الناس، فالنصُّ يطلقه عدلاً شاملاً بين الناس جميعاً، فهو حقٌّ لكلِّ إنسان بوصفه إنساناً، وهو أساس الحكم في الإسلام، وقيمة أخلاقية عليا. ذلك أن إقامة الحقِّ والعدل هي الَّتي تشيع الطمأنينة، وتنشر الأمن، وتوثِّق علاقات الأفراد، وتنمِّي الثقة فيما بينهم، وتحقِّق الرخاء في المجتمع، وتدعم أوضاعه فلا يتعرَّض لخلخلة أو اضطراب.

    إنَّ مهمَّة رسل الله تحقيق العدل، وكذلك وظيفة أتباعهم في السير على هذا النهج، كي تبقى الشرائع تُظِلُّ الناس بظلِّها الظليل، بحيث يتحقَّق العدل بإيصال كلِّ ذي حقٍّ إلى حقِّه، والحكم بمقتضى ما شرع الله من أحكام، وبتجنُّب الهوى في القسمة بين الناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الَّذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا» (رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص t ). وقد أُمِرَ المسلمون وخاصَّة الولاة والقضاة، بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال، لأنه فوَّض إليهم أمر النظر في مصالح العباد، يقول الله تعالى: {..وإذا قُلتُمْ فاعدِلوا ولو كان ذا قُرْبى..} (6 الأنعام آية 152). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس t : «لا تزال هذه الأمَّة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استُرحمت رحمت» (أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وأبو يعلى الموصلي في مسنده أيضاً).

    وأخيراً فإن الله تعالى لا يأمر عباده إلا بما فيه صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم في الدارين، فعليهم أن يَعملوا بأوامره، فهو أعلم منهم بالمسموعات والمرئيات، فإذا حكموا بالعدل فهو سميع لذلك الحكم، وإذا أدَّوْا الأمانة فهو بصير بذلك، وفي هذا وعد عظيم للمطيع، ووعيد شديد للعاصي، وفي ذلك إشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم عن عمر t ).

    سورة الأنفال(8)

    قال الله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ فأبَيْنَ أن يحمِلْنَها وأشفَقْنَ منها وحمَلَها الإنسانُ إنَّه كان ظَلُوماً جَهُولا(72)}

    سورة الأحزاب(33)

    وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون(27)}

    ومضات:

    ـ أشار الله تعالى إلى ثقل الأمانة وعظم مسؤوليتها، حيث رمز إلى أن لها وزناً معنوياً، لا تستطيع السموات والأرض والجبال الرواسي أن تحمله، لأنها تتعلَّق بأداء الحقوق إلى أصحابها سواء منها المادية أم المعنوية.

    ـ ينبغي على الإنسان أن يدرك عظم الأمانة المنوطة به قبل أن يتعهَّدها، حتَّى يحسن تقدير تبعاتها، ويعمل على حفظها؛ فأيُّ إساءة بتأديتها تخلُّ بإيمانه بالله ورسوله، فيسيء بذلك إلى نفسه ومجتمعه.

    في رحاب الآيات:

    إن حمل الأمانة يعني صيانتها والقيام بأعبائها وتكاليفها، فهي تحتاج إلى وعاء يستوعبها، ولا تضيق جوانبه باحتوائها، وهذا الوعاء هو العقل وحريَّة الإرادة؛ لذلك اختار الله الإنسان ـ على ضعفه ـ لحملها، في حين عجز ما في الكون من أجرام عظام عن حملها، وخشي من التقصير في أدائها؛ فقد روى الترمذي عن ابن عباس t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى لآدم: ياآدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها، فقال: وما فيها يارب؟ قال: إن حملتها أُجرت، وإن ضيَّعتها عُذِّبت، فاحْتَمَلَها بما فيها، ولم يلبث في الجنَّة إلا قدر ما بين الصَّلاة الأولى إلى العصر، حتَّى أخرجه الشيطان منها». فلا الجبال الرواسي، ولا السموات الطباق، ولا الأراضي المرساة مؤهَّلة لهذه المهمَّة، لذلك ارتعشت ارتعاشة الخوف والقلق حين عرضها الله تعالى عليها، فهي لا تملك المقوِّمات لتَحَمُّل هذه التبعات. وهذا هو الفرق بينها وبين الإنسان، فهو حرٌّ يملك العقل، وبالعقل يستوعب ويفهم ويدرك ما يُلقى إليه، وبالحريَّة يتمكن من اختيار ما يشاء منه ويلتزم به. لذلك كان مصير هذه المخلوقات الَّتي اعتذرت عن حمل الأمانة إلى فناء وزوال، بينما كان مصير الإنسان إلى خلود في الجنَّة أو في النار، وفقاً لحسن اختياره أو سوئه. لذا ينبغي عليه ألا يكون ضيِّق الأفق، محدود التفكير، وأن يمعن النظر في حجم الأمانة وعظيم مسؤولياتها، فيعدُّ نفسه ويتهيَّأ للنهوض بأعبائها والقيام بواجباتها، فيصونها ولا يضيِّعها، وعليه أن يدرك مقدار ضغط الشهوات ونوازع النفس ومتاهات الهوى ونزغات الشيطان، فلا يأمن جانبها ويركن إلى الغرور؛ حتَّى إذا تعرَّض لشيء من ذلك وجد نفسه أسيراً لها عاجزاً عن القيام بأعبائها فيخونها، ويخون بذلك نفسه ويلقي بها إلى التهلكة.

    والأمانة بمفهومها الواسع هي المسؤولية العظيمة الملقاة على كاهل الإنسان في اختياره للطريق الَّذي يسلكه في حياته، وتقدير نتائج هذا الاختيار وتحمُّل عواقبه كاملة. فهو بين خيارين: إمَّا الامتثال لأمر الله، والنهوض بتكاليف الأمانة بالتعب والنصب، وإمَّا الاستسلام لنوازع النفس والركون إلى الأهواء ومعصية الله تعالى. وهذا هو المحكُّ لاستسلامه لأمر الله أو تمرُّده عليه، وهنا مفترق الطرق حيث يُفْرَزُ الناس إلى فريقين: فريق يقصِّر في حمل الأمانة فيفشل في الامتحان ويخسر نفسه، وفريق يحملها بعزم وصلابة، ويصل إلى المعرفة العميقة بالله، ويهتدي لنواميسه في مخلوقاته، فيطيعه الطاعة الكاملة بإرادته الكاملة. وهذه ميزة الإنسان المؤمن الفاضل على كثير ممَّن خلق الله، لذلك كان محلَّ التكريم الَّذي أعلنه الله تعالى في قرآنه الكريم حيث قال سبحانه: {ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهُمْ في البرِّ والبحر ورزقناهُمْ من الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُمْ على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً} (17 الإسراء آية 70).

    وأعظم أمانة هي أمانة الإيمان والتَّوحيد لله عزَّ وجل، فقضية التَّوحيد هي المحور الَّذي تتمركز عليه عقيدة الإنسان وتدور حوله التكاليف جميعها، وتحت هذه الأمانة تندرج كلُّ أمانات الإنسان مع محيطه، ومنها: أمانة العلم، فالعلم لديه أمانة وهو مسؤول عنه ومؤاخذ عليه من قِبَل الله تعالى إن لم يعلِّمه للناس؛ فعن أبي هريرة t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سُئِلَ عن علمٍ فكتمه ألجمه الله بلجامٍ من نار يوم القيامة» (رواه أبو داود والترمذي)، وإن الحواسَّ الَّتي جعلها الله وسائل تسهم في تزويد عقولنا بالمعارف أمانة، ونحن مسؤولون عنها وعن تنمية عقلنا بالعلم والمعرفة، قال تعالى: {..إن السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً} (17 الإسراء آية 36) وقال أيضاً: {أفلم يسيروا في الأرضِ فتكونَ لهم قلوبٌ يعْقلون بها أو آذانٌ يسمعونَ بها فإنَّها لا تَعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوبُ الَّتي في الصُّدور} (22 الحج آية 46). وجسدُنا أمانة وعلينا أن نطعمه ونغذِّيه حلالاً طيِّباً، وبالقدر الَّذي أمرنا به الله تعالى بقوله: {..وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا إنَّه لا يحبُّ المسرفين} (7 الأعراف آية 31). ونحن بوصفنا آباءً وأمَّهاتٍ مؤتمنون على أُسَرنا، ومكلَّفون بالإنفاق عليها وحمايتها، وتربية أفرادها التربية الإسلامية المثلى، يقول صلى الله عليه وسلم : «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيته» (رواه البخاري)، وعملنا أمانة بين أيدينا، ونحن مسؤولون عن القيام بجميع ما يتطلَّبه من الالتزامات بتجرُّد وإتقان، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (رواه أبو يعلى وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها)، وما يودعه الناس لدينا على سبيل الأمانة فنحن مسؤولون عن ردِّه إليهم. والسرُّ الَّذي يستأمننا عليه إنسان، أمانة، وما يدور بين الزوج وزوجته، أمانة، وينبغي عليهما حفظه وعدم هتك الستر عنه، أخرج أحمد وعبد بن حُمَيْد ومسلم عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه ثمَّ ينشر سرَّها».

    ولعظم شأن الأمانة فقد اعتبرت خيانة إحدى هذه الأمانات في نظر الشرع خيانة لله ولرسوله، لذلك قال تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون} فالأمانة والخيانة قطبان متنافران، وخطَّان متوازيان لا يلتقيان مهما طال الطريق وتطاول الزمن. وممَّا يُرَسِّخُ في النفس الإحساس بجلال قدر الأمانة وعظمتها أن القرآن الكريم وصف سفير الرحمن جبريل عليه السَّلام بأنه الأمين فقال: {نَزَلَ به الرُّوحُ الأمين} (26 الشعراء آية 193)، كما بيَّن في أكثر من موضع أن رسل الله عليهم الصَّلاة والسَّلام أمناء، وأشار سبحانه وتعالى إلى أن كلاً من هود ونوح وصالح ولوط وشعيب عليهم السَّلام قد قال لقومه: {إنِّي لكم رسولٌ أمين} (26 الشعراء آية 107).

    فالأمانة سِمَةُ الأبرار والأطهار الَّذين سمعوا تعاليم الله ووعوها، فروَّضوا أنفسهم على النهوض بتكاليف الرسالة السماوية، فلا تصرفهم عن غايتهم نزغات الشيطان، أو وساوس النفس الأمَّارة بالسوء، أو فتنة الدنيا بشتَّى إغراءاتها. أمَّا الخيانة فهي سِمَة الكفَّار والفجَّار الَّذين شغلتهم احتياجات وجودهم الجسدي المحسوس عن حياتهم الروحية، فهم في شغل دائم لإروائها لا يفرِّقون في ذلك بين حلال ولا حرام، ولا بين عدل أو ظلم؛ فخانوا بذلك أمانة الله وخانوا أرواحهم بحجبها عن نور الله، وخانوا قلوبهم بإهمالها فعبثت بها الشهوات، وعشَّشت في زواياها الذنوب والأهواء، فكانوا من الخاسرين الَّذين خسروا نعيم الآخرة، فَحَسْبُهُمْ جهنَّم وبئس المصير.

     
  4. #4
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: التربية الأخلاقية في الإسلام

    الفصل الرابع:

    الصَّبـر

    سورة البقرة(2)

    قال الله تعالى: {ولَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ منَ الخَوفِ والجُوعِ ونَقْصٍ منَ الأموالِ والأنفُسِ والثَّمَراتِ وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذين إذا أصابَتهُم مصِيبَةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّا إلَيهِ راجِعُونَ(156) أُولَئِكَ عليهِم صَلَواتٌ من ربِّهِم ورحمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ(157)}

    سورة آل عمران(3)

    وقال أيضاً: {ياأيُها الَّذين آمَنُوا اصبِرُوا وصابِروا ورابِطُوا واتَّقُوا الله لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ(200)}

    سورة الطور(52)

    وقال أيضاً: {واصبرْ لحكم ربِّك فإنَّك بأعيُننا وسبِّحْ بحمد ربِّكَ حين تقُومُ(48) ومن اللَّيلِ فسبِّحْهُ وإِدْبارَ النُّجوم(49)}

    ومضات:

    ـ الحياة سلسلة من التجارب والشدائد يخوضها الإنسان، والهدف منها اجتيازه للامتحان الإلهي الَّذي تتحدَّد فيه نتيجته، بمقدار صبره وتجلُّده، وحسن تسليمه لله، وعمله على طاعته وإرضائه.

    ـ الصَّبر هو الثمن الَّذي يدفعه المؤمن لينال به البشرى من الله تعالى بالرضا والثواب. ومن تخلَّق بالصَّبر وحسن التسليم لله مؤمناً بأن الأقدار كلَّها بيد الله، وإليه ترجع الأمور كلُّها، فهو ممَّن مَنَّ الله تعالى عليهم وجعلهم من القوم المهتدين؛ الَّذين يملكون مفاتيح الخير للناس جميعاً، والَّذين يبنون ويعمِّرون، ويتحوَّلون إلى مشاعل من العلم والحكمة تضيء الطريق أمام البشرية جمعاء، فهؤلاء لهم من ربِّهم الجنَّة نِعْم الثواب وحسنت مرتفقاً.

    ـ إن التزام أحكام الشريعة وتبليغها للناس يحتاج إلى الكثير من الصَّبر والأناة والحلم.

    ـ إن أحكام الله عزَّ وجل وتعاليمه ترمي إلى إسعاد الجنس البشري، وقد يصعب على بعض الناس إدراك مقاصدها على الفور، ومن ثمَّ تبنِّيها واتِّباعها، لذا يطلب الله تعالى من النبي الكريم أن يصبر على تبليغ الدعوة، وعلى ما يلاقيه من صدٍّ وعَنَتٍ في سبيل إيصال مفهوم الشريعة إلى الناس، ويُبشِّره بأنه في حفظ الله ورعايته. وهذه العناية الربَّانية تشمل كلَّ الدعاة المخلصين، العاملين بجدٍّ وثبات في مواجهة ما يلاقونه من صعوبات وعقبات، فجميعهم برعاية الله مكلؤون، وبأنظاره تعالى محفوفون.

    / في رحاب الآيات:

    ليس الإنسان بمأمن من البلاء والآلام والمصائب الَّتي قد تواجهه في رحلة الحياة، ولابدَّ له أن يعاني منها وأن يصبر على أذاها، فالصَّبر هو صمَّام الأمان لأنه يعني قوَّة الإرادة، وسعة الصدر والقدرة على التحمُّل، ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعظم عطاء حيث قال: «ما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصَّبر» (رواه الخمسة عن أبي سعيد الخدري t ). وهو يساعد على ضبط كوابح النفس والأخذ بزمامها؛ فالمؤمن الصابر إذا حلَّ به حزن أو أَلَمَّت به نازلة، أحال نكبته إلى قوَّة، وجعل منها درساً ليفهم حقائق كانت خافية عليه، أو معاني غفل عن إدراكها، أو إرشادات قصَّر في اتباعها؛ لهذا تراه دائماً رابط الجأش، راسخ القدم مطمئناً، حَسنَ الظن بربِّه، وهو موقن في قرارة نفسه أنَّ أيَّ تخاذل يقع فيه، سيكون ضرره أشدَّ وأوقعَ من ضرر البلاء نفسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ عِظَمَ الجزاء مع عِظَمِ البلاء وإن الله تعالى إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط» (رواه الترمذي).

    فالابتلاء تجربة تربوية من شأنها أن تبني شخصية المؤمن بناءً قوياً، وتُعِدَّه إعداداً راقياً، وكلَّما كان عسيراً وشاقّاً كلَّما تطلَّب مزيداً من الصَّبر والثبات والتحمُّل، ليتمكَّن المؤمن المبتلى من جني ثمرته الغالية، فعن أبي هريرةt أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله حتَّى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» (رواه الترمذي) فمن ثبت وتمسَّك بأهداب الصَّبر فأجره على الله.

    والمؤمن ينظر إلى المصائب على أنها امتحانات إلهية فتشرق نفسه حيالها، ويتعامل معها على أنها فرص لرفع الدرجات وحطِّ الخطايا، فلا يبتئس أو يتخاذل بل يمضي قُدُماً لينجح في الامتحان، وتأتيه البشارة من الله بأن له الرحمات والنعيم. روي عن عمر بن الخطاب t أنه قال: (ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نِعَم: الأولى أنها لم تكن في ديني، والثانية: أنها لم تكن أعظم ممَّا كانت، والثالثة: أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير) ثمَّ تلا قوله تعالى: {..وبَشِّرِ الصَّابرين * الَّذين إذا أصابتهُم مصيبةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون * أولئك عليهِمْ صلواتٌ من ربِّهِمْ ورحمةٌ وأولئك همُ المهتدون}.

    فهذه الآية الكريمة تحدِّد ملامح هؤلاء الصابرين، الصَّبر الجميل، المُرْجِعِين أمورهم إلى الله تعالى، فهم مطمئنون، قلوبهم متصلة بخالقها لا تتبرَّم ولا تتذمَّر، وألسنتهم مطهَّرة لاتنطق إلا بالتسليم لله والرضا بقضائه، وتردِّد: {إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون}. أي كلُّنا لله، جوارحنا متجهة إليه، وأمورنا راجعة إليه، وله نسلِّم التسليم المطلق. عن أمِّ سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنالله وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» (رواه مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون حَمِدك واسترجع (أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون)، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنَّة وسمُّوه بيت الحمد» (أخرجه أحمد والترمذي) وبما أن الجزاء يكون على قدر الجهد، فالله تعالى يثيب المؤمنين الصابرين ثواباً عظيماً.

    فالصَّبر هو شطر الإيمان وزاد الطريق، ولهذا حثَّ الله تعالى عليه لما له من أثر كبير في مسيرة الإنسان. والمجالات الَّتي تظهر فيها أهمِّية الصَّبر كثيرة ومتفرعة، ولعلَّ أهمَّها الصَّبر على الطاعات، والصَّبر عن الشهوات ولذَّاتها، لأنه جهاد دائم، بخلاف المصيبة الَّتي تكون بمثابة عارض لا يلبث أن يزول، كفقدان الأهل والأحِبَّة وحلول الأوجاع والأمراض. وهناك صبر على التعامل مع الناس وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المسلم إذا كان مخالطاً الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الَّذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (رواه الترمذي). وأعظم الصَّبر صبر الأنبياء على الإيذاء والإعراض والصدود الَّذي يلقونه من أقوامهم، وقد سُمِّي أربعة منهم بأولي العزم لعظيم ابتلائهم وجميل صبرهم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السَّلام، وجاء الأمر لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم من الله تعالى أن يقتدي بهم ليكون له في صبرهم أسوة حسنة في هذا الشأن، فقال له: {فاصبرْ كما صبرَ أُولُوا العَزْمِ منَ الرُّسُلِ..} (46 الأحقاف آية 35). وليس المقصود بالصَّبر الاستسلام للأمراض أو الآلام، بل هو الجَلَد والتحمُّل وحسن التعايش مع الصعوبات، وكيفية مقاومتها والالتفاف حولها دون الإذعان لها. ولابدَّ في هذه المواقف من استمداد العون من الله تعالى، لأن الإيمان أقوى من جميع المواقف والعواطف والمشاعر النفسية، لأنه نور الله تعالى وإكسير الحياة للقلوب ومطهِّرها من الآثام.

    وإذا استقرَّت إرادة الصَّبر في أعماق النفس وتأصَّلت بداخلها، ولَّدت فيها طاقات إضافية على التحمُّل؛ فهي بحر لا ساحل له، وكلَّما اشتدَّت الخطوب أغدقت علينا مزيداً من الإرادة والعزيمة في مواجهتها. وأحسن الصَّبر هو الصَّبر على الإيذاء في العقيدة وهو المصابرة بعينها، فهي شدٌّ للعزائم وثبات على الحقِّ، وإصرار في وجه من يخطِّط ويدبِّر لتخريب حياتنا وتدمير سعادتنا. وأمَّا المرابطة فهي كلُّ ما فيه انتظار وترقُّب واستعداد من أجل تحقيق أيِّ عمل في سبيل الله، فحراسة حدود الوطن لمواجهة الأعداء مرابطة، فيها الثواب الجزيل والعطاء الوفير، فقد فاق جزاؤها الدنيا وما فيها من متع، كما ذكر سهل بن سعد الساعدي t أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها». وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة مرابطة، والصَّبر على العلم والتعلُّم مرابطة، والسهر على راحة العلماء ومشاركتهم في خدمة العمل الإسلامي مرابطة، وكذلك أَنْ توقف نفسك عند حدود الله وتلتزم بها ولا تتعدَّاها، وتترصَّد الشيطان فلا تسمح له أن يتغلغل إلى داخلها مرابطة. وكذلك من المرابطة التزام جانب الحيطة والحذر مع كلِّ من يحاول أن يتعرَّض للعقيدة الإسلامية بأيِّ أذى، لتلويث أفكار المسلمين وإبعادهم عن جادَّة الصواب، وإفشال مسعى هؤلاء وقذف باطلهم بالحقِّ فيدمغه، قال تعالى: {بل نقذفُ بالحقِّ على الباطلِ فَيَدْمَغُهُ فإذا هوَ زَاهِقٌ..} (21 الأنبياء آية 18).

    وهكذا فإن كلَّ عمل يقوم به المرء، لابدَّ أن يتجمَّل بالصَّبر، لأنه الحارس اليقظ للإرادة يمنعها من أن تهن أو تضعف، والحارس للنفس البشرية من الانهيار أمام الأهواء أو الشدائد.

    وفي الختام نجد أن المؤمن ينال بالصَّبر مرتبة جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يتعجَّب من خيرها وبرِّها حيث قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كلَّه له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيراً، وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيراً له» (رواه مسلم).

     
  5. #5
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4388

    افتراضي رد: التربية الأخلاقية في الإسلام

    الفصل الخامس:

    القـنـــاعـة

    سورة الزخرف(43)

    قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رحمةَ ربِّكَ نحن قَسمْنَا بينَهُمْ معيشَتَهُمْ في الحياةِ الدُّنيا ورفعنا بعضَهُمْ فوق بعضٍ درجاتٍ ليتَّخِذَ بعضُهُمْ بعضاً سُخْريّاً ورحمةُ ربِّك خيرٌ ممَّا يَجمعون(32)}

    / ومضات:

    ـ القناعة كنز لا يملكه إلا من آمن بحكمة الله قولا وعملا فيما قَسَم لخلقه.

    ـ تسجِّل هذه الآية الكريمة استنكاراً للقول الَّذي يتقوَّله بعض الناس حين يتكلَّمون بما ليس لهم به علم، فيدَّعون أنه ليس من العدل أن يكون هناك فقراء بين الناس، وأن العدالة تقتضي أن يقسم الله تعالى الأرزاق بالتَّساوي، فلا يكون هناك فقير ولا غني. وهم بذلك يتطفَّلون ويدَّعون القدرة على تغيير موازين المجتمعات البشرية، وتبديل القواعد الَّتي ترتكز عليها، ولو أنهم أمعنوا النظر في الأمر لوجدوا أن استمرارية الحياة على هذه الأرض تقتضي وجود التفاوت بين الناس، في المال والعقل والقدرات، ليتمَّ التعاون فيما بينهم، لئلا تتعطَّل أمور الحياة أو تخرج عن مسارها الصحيح.

    ـ إن رحمة الله تعالى لا تقتصر على توزيع الأرزاق على الناس بل هي أوسع من ذلك وأشمل، فكم من فقير قنوع، سعيد في حياته؛ ينعم برحمة الله تعالى، وكم من غنيٍّ طامع سُلب هذه الرحمة، فلا يهدأ له بال ولا يطمئن ولا يعرف للسعادة طعماً.

    / في رحاب الآيات:

    يبدو بعض أدعياء الفكر والثقافة وكأنَّهم شركاء للخالق عزَّ وجل في تصريف أمور الكون؛ إذ يريدون أن يغيِّروا شرائح المجتمع وأسلوب الحياة، وفق موازينهم المختلَّة ونظرتهم القاصرة، والَّتي تنظر إلى الأمور من زاوية ضيِّقة، ولا تنظر إليها نظرة دقيقة شاملة، لذلك لم يدركوا ما سيلحق الناس من ضرر وإفساد، وتفتيت للعلاقات القائمة بينهم، لو تمَّ لهم ما أرادوا.

    إن الله تعالى قدَّر شؤون هذا الكون أحسن تقدير، من ذلك أنه أحاط الكرة الأرضية بقوانين ثابتة حكيمة تكفل استمرار الحياة عليها، وقد أحكم دورانها حول نفسها وحول الشمس، وهو الَّذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وزوَّده بالعقل، ومنحه الإرادة والقوَّة ليتمكَّن من التعايش مع الآخرين وكسب العيش؛ كذلك قدَّر قوانين الرزق والعطاء، وخلق الأسباب والمسببات لئلا يتواكل الناس، وينقطعوا عن السعيِّ والعمل. فكما أن الله قدَّر هذه الأشياء فأحكم التقدير، فكذلك قدَّر وجود الطبقات الاجتماعية المتفاوتة الَّتي لا يدلُّ وجودها على فساد تركيبة المجتمع، ولا يعني تفضيل قوم على قوم، بل هي أقوام مسخَّرة لخدمة بعضها بعضاً، تتساوى جميعها في الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية، كما تتساوى أمام الله في الجزاء على العمل والعبادة، فتعمل بشكل منسجم يتمِّم بعضها بعضاً، بحيث يشعر كلٌّ في موقعه بالسرور والقناعة إذا أدَّى دوره المنوط به بنجاح وإتقان.

    فالسبق الحقيقي هو لمن أحسن عمله، واستقامت سيرته، وأبلى البلاء الحسن فيما يرضي الله عنه دون طغيان أو إخلال بموازين الأمانة والمسؤولية والشرف. والحكمة الكامنة في التفاوت بين الناس، وفي جميع العصور والبيئات، هي أن يتَّخِذ كلُّ فرد موقعه في معركة الحياة، حسب مواهبه ومقدرته، وحين يسير دولاب الحياة يُسَخَّرُ بعض الناس لبعضهم حتماً. وليس هذا التسخير مثار استعلاء طبقة على طبقة، أو فرد على فرد، بل هو توزيع للوظائف الحياتيَّة المطلوبة على كلِّ أفراد المجتمع، لتتوازن أمور الناس وتقضى حوائجهم، ويتابعون جميعهم مسيرة الإعمار. وهكذا فالكلُّ مسخَّرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات، والاختلاف في الأعمال والأرزاق، قال الله تعالى: {..هوَ أنشَأكُمْ من الأرضِ واستعمَركُم فيها..} (11 هود آية 61) وقال سبحانه: {وهوَ الَّذي جعلَكُم خلائِفَ الأرضِ ورفعَ بَعضكُمْ فوقَ بعضٍ درجاتٍ ليبْلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ..} (6 الأنعام آية 165).

    لقد سار الإسلام بالمجتمع في هذه التعاليم إلى العدالة الاجتماعية المطلقة والسعادة الحقيقية، فقد نفى وجود العوز والفاقة في ظلال هذا التمايز بين الناس غنىً وفقراً، واستطاع أن يصل بهم جميعاً إلى حدِّ الغنى، وقضى على مشكلة الفقر عملياً. ففي عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لم يبقَ في المجتمع فقير محتاج إلى الزَّكاة، وبذلك أثبت الإسلام صحَّة نظريته عملاً وتطبيقاً. فلو كان جميع الناس على مستوى فكري واجتماعي واحد لما أمكن أن تقوم الحياة بهذه الصورة، ولبقيت أعمال كثيرة جداً معطَّلة لا تجد لها منجزاً. وإن الَّذي خلق الحياة هو الَّذي خلق الاستعدادات متفاوتة بتفاوت الأدوار المطلوب أداؤها، وبمقابل هذا التباين يتباين الرزق، وهكذا تسير الأمور في الاتجاه الصحيح. إن الله الَّذي مكَّن الغنيَّ من المال ومنعه عن الفقير؛ ابتلى كلاً منهما واختبره، فهل يشكر الغنيُّ نعمة الله فيضمن كفاية الفقير فيفوز في الاختبار؟ وهل يصبر الفقير على الفقر فينجح في الامتحان؟ أم أنَّ أحدهما أو كليهما يتنكَّر لقدر الله فتكون الخسارة العظمى؟. إن الله يصيب برحمته من يشاء من عباده وفق ما تقتضي حكمته سبحانه، ولا علاقة بينها وبين متع الحياة الدنيا، ولا صلة لها بالقيم المادية في هذه الحياة، فهذه القيم زهيدة عند الله، ومن ثمَّ يشترك فيها الأبرار والفجَّار، وينالها الصالحون والطالحون، بينما يختصُّ الله المحسنين برحمته في الدنيا والآخرة.

    وختام القول: إن استمرار دوران عجلة الحياة متوقِّف على شعور كلِّ فرد في المجتمع بافتقاره إلى ما عند غيره، واحتياج غيره إلى ما عنده، فيتبادلون المنافع وتسير عجلة الحياة دون توقف، ولاشكَّ أنها ستتوقف عندما يشعرون بالاستغناء عن بعضهم بعضاً.

    سورة طه(20)

    قال الله تعالى: {ولا تَمُدَّنَّ عينَيْكَ إلى ما متَّعْنا به أزواجاً منهمْ زَهْرَةَ الحياةِ الدُّنيا لنفتِنَهُمْ فيه ورزْقُ ربِّكَ خيرٌ وأبقى(131) وأْمُرْ أهلَكَ بالصَّلاة واصطبِرْ عليها لا نسئَلُكَ رِزْقاً نحن نرزُقُكَ والعاقِبَةُ للتَّقوى(132)}

    / ومضات:

    ـ الإسلام لا يدعو إلى الإعراض عن طيِّبات الحياة، ولكنه يدعو إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية، وإلى الصلة بالله والرضا بعطائه بحيث لا تتهاوى النفوس أمام زينة المال، بل تبقى القيم العليا هي الأساس، وهي المحرِّر للإنسان من عبوديَّة المادَّة والزخارف الزائفة.

    ـ إن ممارسة الإنسان للعبادات لا تزيد في ملك الله شيئاً، فالله غنيٌّ عن العالمين، ولكنها تشعره بطمأنينة الصلة بالله فتستريح جوارحه وتسكن نفسه، ومن ثمَّ يُجزى عليها الجزاء الأوفى.

    / في رحاب الآيات:

    زرع الإسلام في أعماق المسلم القناعة وهي: الرضا بالميسور، واليأس ممَّا في أيدي الناس، وذلك لئلا يتعلَّق قلبه بالمادِّيات فتصبح هدفه، أو يصبح الإكثار منها غاية طموحه. وطلب منه في الوقت نفسه أن يسعى للكسب الحلال بكلِّ جهده شريطة أن يسخِّر بعضاً من عطاء الله في سبيل خدمة عباد الله، بحيث تتوازن نفسيَّة المسلم، فلا يشعر بالقلق إن قلَّ نصيبه من الدنيا أو كثر، لأن الرزق الحقيقي هو غنى النفس ورضاها بما قسمه الله من عطاء مادِّي وروحي. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (رواه الشيخان والترمذي)، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهنَّ أو يعلِّم من يعمل بهنَّ، قلت أنا يارسول الله، فأخذ بيدي وعدَّ خمساً وقال: اتَّقِ المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحبب للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» (رواه الترمذي والإمام أحمد).

    وهذا درس عملي تطبيقي يدرِّب الله عباده المؤمنين عليه لتزكو نفوسهم وتسمو فوق المادِّيات؛ فهو يأمرهم بأن يتَّجهوا إليه بالعبادة، وألا ينبهروا بما في أيدي المترفين وأن لا يتمنَّوا زواله من أيديهم ليمتلكوه هم، فإنَّما النعيم الَّذي ينعمون به زهرة ذابلة، ونعمة زائلة، كالزهرة تجدها نضرة عطرة، ولكنها سريعة الذُّبول على ما بها من رونق وجمال. فهذه النعمة موضوع اختبار لهم، بحيث تكشف عن معادنهم وسلوكهم، وكيفية تصرفهم بها أثناء جريانها بين أيديهم، وثواب الله الدائم خير من النعيم الفاني، فهو رزق للنعمة لا للفتنة، رزق طيِّب باق لا يحول ولا يزول.

    وليـسـت هذه دعوة للحرمان من طيِّبات الحياة، ولكنها دعوة لتوثيق الصلة بالله، وطلب رضاه، فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء، ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا، بل تعيش طليقة متحرِّرة من قيود المظاهر والشكليَّات الَّتي لا تساوي شيئاً بنظر أغنياء القلوب إذا قيِست بما عند الله. روى الطبراني أنه «لمَّا آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرآه على رمال حصير قد أثَّر في جنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال: يارسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه! فقال: أوَ في شك أنت يابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيِّباتهم في حياتهم الدنيا»، فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، وإذا جاءه شيء من رزقها وخيرها أنفقه في سبيل الله تعالى.

    من جهة ثانية فقد اهتمَّ الإسلام كثيراً بإشاعة الجو التعبُّدي ضمن العائلة، وجعل ذلك مسؤولية ربِّ العائلة، فالرجل مأمور أن يتابع أفراد عائلته في صلاتهم وصومهم وسائر عباداتهم، وعليه بالصبر والحلم والأناة أثناء المتابعة، وألا يشعر بالملل واليأس في تحمُّل هذه المسؤولية، ولا يغتمَّ من أجل تحصيل الرزق، بل يتَّقي الله تعالى في سائر أموره فيأتيه الرزق من حيث لا يحتسب، قال تعالى: {..ومن يتَّقِ الله يجعَلْ لهُ مَخْرَجاً * ويَرْزُقْهُ من حيثُ لا يحتسِبُ..} (65 الطلاق آية 2ـ3) وأخرج ابن المنذر والطبراني وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدَّة أو ضيق أمرهم بالصَّلاة وتلا: {وأْمُرْ أهلكَ بالصَّلاة}». وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِ في الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيَّته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (رواه ابن ماجه بإسناد صحيح). فأوَّل واجبات المسلم أن يحوِّل بيته إلى بيتٍ مسلم، وأن يوجِّه أهله إلى أداء الفريضة الَّتي تصلهم بالله تعالى، فتوحِّد اتجاههم العلوي في الحياة، وأن لا يخدعوا بزخارف الحياة الدنيا الفانية الَّتي يتمتع بها المترفون في هذه الدنيا، فهي حظُّهم من الوجود ثمَّ ينقلبون عنها شرَّ منقلب، قال الله تعالى: {..وسَيَعْلَمُ الَّذين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ ينقلِبُون} (26 الشعراء آية 227). إن العاقبة الحسنة والحياة الأبديَّة الناعمة هي من نصيب المتَّقين، الَّذين عزفوا عن التعلُّق بالدنيا وزخارفها على الرغم من انهماكهم بها، وأقبلوا على ربِّهم بما يحبُّ من القول والعمل والصفات فكانوا هم الفائزون.

     

 
+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك