بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الموسوعة الفقهية / الجزء الأول
أ
( أئمّة )
التّعريف :
1 - الأئمّة لغةً : من يقتدى بهم من رئيس أو غيره . مفرده : إمام . ولا يبعد المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، بإطلاقه الشّامل للمقتدى بهم عموماً في مجال الخير والشّرّ ، طوعاً أو كرهاً .
الاطلاقات المختلفة لهذا المصطلح
2 - يطلق على الأنبياء عليهم السلام أنّهم « أئمّة » من حيث يجب على الخلق اتّباعهم ، قال اللّه تعالى عقب ذكر بعض الأنبياء : { وجعلناهم أئمّةً يهدون بأمرنا } كما يطلق على الخلفاء « أئمّةً » لأنّهم رتّبوا في المحلّ الّذي يجب على النّاس اتّباعهم وقبول قولهم وأحكامهم . وتوصف إمامتهم بالإمامة الكبرى ، كما يطلق أيضاً على الّذين يصلّون بالنّاس - وتقيّد هذه الإمامة بأنّها الإمامة الصّغرى - لأنّ من دخل في صلاتهم لزمه الائتمام بهم ، قال عليه الصلاة والسلام : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، ولا تختلفوا على إمامكم » . وهناك إطلاقات اصطلاحيّة أخرى لمصطلح « أئمّة » عند العلماء تختلف من علم لآخر ، فهو يطلق عند الفقهاء على مجتهدي الشّرع أصحاب المذاهب المتبوعة ، وإذا قيل « الأئمّة الأربعة » انصرف ذلك إلى أبي حنيفة ، ومالك ، والشّافعيّ ، وأحمد . ويطلق عند الأصوليّين على من لهم سبق في تدوين الأصول بطرائقه الثّلاث : طريقة المتكلّمين ، كالجوينيّ والغزاليّ . وطريقة الحنفيّة ، كالكرخيّ والبزدويّ ، والطّريقة الجامعة بينهما ، كابن السّاعاتيّ والسّبكيّ ، وأمثالهم . ويطلق عند المفسّرين على أمثال مجاهد ، والحسن البصريّ ، وسعيد بن جبير . ويطلق في علم القراءات على القرّاء العشرة الّذين تواترت قراءاتهم وهم : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف . ويطلق مصطلح « أئمّة " عند المحدّثين على أهل الجرح والتّعديل كعليّ بن المدينيّ ويحيى بن معين وأمثالهما . وإذا قيل عندهم " الأئمّة السّتّة " انصرف ذلك إلى الأئمّة : البخاريّ ، ومسلم ، وأبي داود ، والتّرمذيّ ، والنّسائيّ ، وابن ماجه . وعدّ بعضهم مالكاً بدلاً من ابن ماجه ، وبعضهم أبدله بالدّارميّ . ويطلق عند المتكلّمين على أمثال الأشعريّ والماتريديّ ممّن لهم مذاهب وأتباع في العقيدة .
( الحكم الإجماليّ )
3 - اجتهادات أحد أئمّة المذاهب الفقهيّة المعتبرة ( الّتي نقلت نقلاً صحيحاً منضبطاً تمّ به تقييد مطلقها ، وتخصيص عامّها ، وذكر شروط فروعها ) يخيّر في الأخذ بأحد تلك الاجتهادات لمن ليست لديه أهليّة الاجتهاد . وليس من الضّروريّ التزام مذهب معيّن . على أنّ من كانت لديه ملكة التّرجيح والتّخريج فإنّه يستعين بالاجتهادات الفقهيّة كلّها بعد التّثبّت من صحّة نقلها - ولو نقلت مجملةً - وله الأخذ بها عملاً وإفتاءً في ضوء قواعد الاستنباط والتّرجيح . وتلفيق عبادة واحدة أو تصرّف واحد من اجتهادات أئمّة متعدّدين في صحّته خلاف . وتفصيل ذلك كلّه موطنه الملحق الأصوليّ ، ومصطلحات : اجتهاد ، إفتاء ، قضاء ، تقليد ، تلفيق .
4 - وفي الإمامة بنوعيها : الإمامة العظمى ( الخلافة ) في قطر واحد ، والصّغرى ( إمامة الصّلاة ) في وقت واحد ومكان واحد ، يمتنع تعدّد الأئمّة في الجملة ، حتّى لا تتفرّق كلمة المسلمين . وتفصيل ذلك يرجع إليه في : إمامة الصّلاة ، والإمامة الكبرى .
5 - وفي أصول الفقه وأصول علم الحديث يقبل من الأئمّة ما أرسله أحدهم من أحاديث . والمرسل عند المحدّثين ما قال فيه التّابعيّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
6 - والأكثرون على قبول مراسيل الأئمّة من التّابعين إذا كان الرّاوي ثقةً . ولهذا قالوا " من أسند فقد حمل ، ومن أرسل فقد تحمّل » . ومثّل لهم صاحب مسلم الثّبوت بالحسن البصريّ وسعيد بن المسيّب وإبراهيم النّخعيّ .
( آباء )
التّعريف
1 - الآباء جمع أب . والأب الوالد . « والأصول » أعمّ من الآباء ، لشمول الأصول للأمّهات والأجداد والجدّات . ويجوز في اللّغة استعمال " الآباء " شاملاً للأجداد ، لما لهم على الشّخص من الولادة . وقد يدخل الأعمام ، لأنّ العمّ يسمّى أباً مجازاً . ومنه قول اللّه تعالى حاكياً عن أولاد يعقوب عليه السلام : { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } . فإنّ إسماعيل عمّ يعقوب عليهما السلام .
2 - ويستعمل « الآباء » في كلام الفقهاء بمعنى الوالدين الذّكور ، كما في الاستعمال اللّغويّ .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الفقهاء إذا استعملت هذه العبارة في صيغة وصيّة أو نحوها - في تناولها للأجداد ، لاختلافهم في أنّ اللّفظ هل يصحّ أن يراد به حقيقته ومجازه في آن واحد ، فإنّ إطلاق " الآباء " على الأجداد مجاز . وطريقة الحنفيّة أنّه « لا يصحّ أن يراد من اللّفظ معناه الحقيقيّ والمجازيّ في آن واحد ، لرجحان المتبوع على التّابع » كما في التّنقيح . قال سعد الدّين التّفتازانيّ : « فلو أمّن المسلمون الكفّار على الآباء والأمّهات فإنّه لا يتناول الأجداد والجدّات . « وجاء في الفتاوى الهنديّة في باب الوصيّة نقلاً عن المحيط » إذا أوصى لآباء فلان وفلان ، ولهم آباء وأمّهات ، دخلوا في الوصيّة ، ولو لم يكن لهم آباء وأمّهات ، وإنّما لهم أجداد وجدّات ، فإنّهم لا يدخلون في الوصيّة . « وفي الهنديّة أيضاً » بئئ قال محمّد رحمه الله : فإن كان لسانهم الّذي يتكلّمون به أنّ الجدّ والد ، يدخل في الأمان » . وأمّا عند الشّافعيّة والجمهور ، فيصحّ إطلاق اللّفظ الواحد على حقيقته ومجازه في آن واحد . ولعلّ هذا مبنى ما قال الرّمليّ من الشّافعيّة : من قال : أوصيت لآباء فلان ، يدخل الأجداد من الطّرفين . يعني من قبل الأب والأمّ .
( مواطن البحث )
4 - هذا وقد ذكر بعض الفقهاء هذه المسألة في مباحث الوصيّة ومباحث الأمان . ويرجع إليها أيضاً في مباحث " المشترك " من أصول الفقه . ولمعرفة سائر أحكام الآباء ( ر : أب )
.
آبار
المبحث الأوّل
تعريف الآبار وبيان أحكامها العامّة
1 - الآبار جمع بئر ، مأخوذ من " بأر " أي حفر . ويجمع أيضاً جمع قلّة على أبورً وآبر . وجمع الكثرة منه بئار . وينقل ابن عابدين في حاشيته عن " النّتف » : البئر هي الّتي لها موادّ من أسفلها ، أي لها مياه تمدّها وتنبع من أسفلها . وقال : ولا يخفى أنّه على هذا التّعريف يخرج الصّهريج والجبّ والآبار الّتي تملأ من المطر ، أو من الأنهار ، والّتي يطلق عليها اسم الرّكيّة ( على وزن عطيّة ) كما هو العرف ، إذ الرّكيّة هي البئر ، كما في القاموس . لكن في العرف هي بئر يجتمع ماؤها من المطر ، فهي بمعنى الصّهريج . وفي حاشية البجيرميّ على شرح الخطيب أنّ " البئر " قد تطلق على المكان الّذي ينزل فيه البول والغائط ، وهي الحاصل الّذي تحت بيت الرّاحة . ويسمّى الآن بالخزّان . ويقال عن هذه البئر : بئر الحشّ ، والحشّ هو بيت الخلاء .
2 - والأصل في ماء الآبار الطّهوريّة ( أي كونه طاهراً في نفسه مطهّراً لغيره ) ، فيصحّ التّطهير به اتّفاقاً ، إلاّ إذا تنجّس الماء أو تغيّر أحد أوصافه على تفصيل في التّغيّر يعرف في أحكام المياه . غير أنّ هناك آباراً تكلّم الفقهاء عن كراهة التّطهير بمائها لأنّها في أرض مغضوب عليها . وهناك من الآبار ما نصّ الفقهاء على اختصاصها بالفضل ، ورتّبوا على ذلك بعض الأحكام .
المبحث الثّاني
حفر الآبار لإحياء الموات وتعلّق حقّ النّاس بمائها
أوّلاً : حفر البئر لإحياء الموات
3 - حفر البئر وخروج الماء منها طريق من طرق الإحياء . وقد أجمع الفقهاء على أنّه إذا تمّ تفجير الماء والانتفاع به في الإنبات ، مع نيّة التّملّك ، يتمّ به الإحياء . وذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ تفجير الماء يتمّ به الإحياء في الجملة ، غير أنّ المالكيّة يشترطون إعلان النّيّة إذا كانت البئر بئر ماشية . والشّافعيّة في الصّحيح يشترطون الغرس إذا كانت البئر لبستان ، كما يشترطون نيّة التّملّك . واشترط بعضهم طيّها ( أي بناء جدرانها ) إذا كانت في أرض رخوة أمّا الحنفيّة فيرون أنّ الإحياء لا يتمّ بتفجير الماء وحده ، وإنّما بالحفر وسقي الأرض . ولا خلاف في أنّ للبئر في الأرض الموات حريماً ، لحاجة الحفر والانتفاع ، حتّى لو أراد أحد أن يحفر بئراً في حريمه له أن يمنعه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل للبئر حريماً . واختلفوا في المقدار الّذي يعتبر حريماً ، فحدّده الحنفيّة والحنابلة بالأذرع حسب نوع البئر . ويستند المذهبان في ذلك إلى ما ورد من أخبار . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فقدّروه بما لا يضيق على الوارد ، ولا على مناخ إبلها ، ولا مرابض مواشيها عند الورود ، ولا يضرّ بماء البئر . وتفصيل ذلك في مصطلح « إحياء الموات » .
ثانياً : تعلّق حقّ النّاس بماء الآبار
4 - الأصل في هذه المسألة ما رواه الخلاّل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أنّه قال : « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . كما روي أنّه صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيع الماء إلاّ ما حمل منه » . والاستثناء يدلّ على أنّ المراد بالماء في الحديث الأوّل غير المحرز . وعلى هذا فمياه الآبار العامّة مباحة ، ولا ملك فيها لأحد ، إلاّ بالاغتراف . وأمّا مياه الآبار الخاصّة فإنّها خرجت عن الإباحة العامّة . ولمّا كانت حاجة الإنسان إلى الماء لشربه وشرب حيوانه ممّا يسمّيه الفقهاء بحقّ الشّفة ماسةً ومتكرّرةً ، كما أنّ أصل الماء قبل جريانه في الملك الخاصّ مباح ، وأنّ مياه الآبار في الأعمّ الأغلب متّصلة بالمجرى العامّ ، أوجد ذلك شبهة الإباحة في ماء الآبار الخاصّة ، لكنّها إباحة قاصرة على حقّ الشّفة دون حقّ الشّرب .
5 - واتّجاهات الفقهاء مختلفة بالنّسبة لملكيّة ماء آبار الدّور والأراضي المملوكة ، وتعلّق حقّ النّاس بها . فقيل بأنّ للنّاس حقّاً فيها . وهو قول عند الحنفيّة إذا لم يوجد ماء قريب في غير ملك أحد ، حتّى لو لم يفض عن حاجته عند أبي حنيفة . وقيّد أكثر المشايخ ذلك بما إذا كان يفيض عن حاجته . وهو مذهب الحنابلة ، لأنّ البئر ما وضع للإحراز ، ولأنّ في بقاء حقّ الشّفة ضرورةً ، ولأنّ البئر تتبع الأرض دون الماء ، ولخبر « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . وهذا هو الظّاهر في مذهب الشّافعيّة إذا كان حفر البئر بقصد الانتفاع بالماء ، أو حفر بقصد التّملّك ، وهو غير المشهور عند المالكيّة في غير آبار الدّور والحوائط المسوّرة . وقيّد ذلك ابن رشد بما إذا كانت البئر في أرض لا يضرّها الدّخول فيها . الاتّجاه الثّاني : أنّه لا يتعلّق به حقّ أحد ، وملكيّته خالصة لصاحبه . وهو قول عند الحنفيّة ، ورواية عن أحمد ، ومذهب المالكيّة بالنّسبة لآبار الدّور والحوائط المسوّرة ، والقول المشهور عندهم بالنّسبة لغيرها من الآبار الخاصّة في الأراضي المملوكة ، والأصحّ عند الشّافعيّة إذا كان يملك المنبع ، أو كان حفرها بقصد التّملّك . فلصاحب البئر على هذا أن يمنع الغير من حقّ الشّفة أيضاً ، وأن يبيع الماء ، لأنّه في حكم المحرز . ويقيّد المنع بغير من خيف عليه الهلاك ، لأنّها حالة ضرورة . وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك ، كالقار والنّفط .
المبحث الثّالث
حدّ الكثرة في ماء البئر وأثر اختلاطه بطاهر وانغماس آدميّ فيه طاهر أو به نجاسة
6 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الماء الكثير لا ينجّسه شيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه . ويختلفون في حدّ الكثرة ، فيقدّرها الحنفيّة بما يوازي عشر أذرع في عشر دون اعتبار للعمق ما دام القاع لا يظهر بالاغتراف . والذّراع سبع قبضات ، لأنّها لو كانت عشراً في عشر فإنّ الماء لا يتنجّس بشيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، اعتباراً بالماء الجاري . والقياس أن لا تطهر ، لكن ترك القياس للآثار ، ومسائل الآبار مبنيّة على الآثار . والمفتى به القول بالعشر ولو حكماً ليعمّ ما له طول بلا عرض في الأصحّ . وقيل المعتبر في القدر الكثير رأي المبتلى به ، بناءً على عدم صحّة ثبوت تقدير شرعاً . ويرى المالكيّة أنّ الكثير ما زاد قدره عن آنية الغسل ، وكذا ما زاد عن قدر آنية الوضوء ، على الرّاجح . ويتّفق الشّافعيّة ، والحنابلة في ظاهر المذهب ، على أنّ الكثير ما بلغ قلّتين فأكثر ، لحديث « إذا بلغ الماء قلّتين لم ينجّسه شيء » وفي رواية « لم يحمل الخبث » . وإن نقص عن القلّتين برطل أو رطلين فهو في حكم القلّتين .
7 - إذا اختلط بماء البئر طاهر ، مائعاً كان أو جامداً ، وكانت البئر ممّا يعتبر ماؤها قليلاً ، تجري عليه أحكام الماء القليل المختلط بطاهر ، ويرجع في تحديد الكثرة والقلّة إلى تفصيلات المذاهب في مصطلح ( مياه ) .
انغماس الآدميّ في ماء البئر
8 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الآدميّ إذا انغمس في البئر ، وكان طاهراً من الحدث والخبث ، وكان الماء كثيراً ، فإنّ الماء لا يعتبر مستعملاً ، ويبقى على أصل طهوريّته . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه ينزح منه عشرون دلواً . ومذهب الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة أنّ الآدميّ طاهر حيّاً وميّتاً ، وأنّ موت الآدميّ في الماء لا ينجّسه إلاّ إن تغيّر أحد أوصاف الماء تغيّراً فاحشاً . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المؤمن لا ينجس » . ولأنّه لا ينجس بالموت ، كالشّهيد ، لأنّه لو نجس بالموت لم يطهر بالغسل . ولا فرق بين المسلم والكافر ، لاستوائهما في الآدميّة . ويرى الحنفيّة نزح كلّ ماء البئر بموت الآدميّ فيه ، إذ نصّوا على أنّه ينزح ماء البئر كلّه بموت سنّورين أو كلب أو شاة أو آدميّ . وموت الكلب ليس بشرط حتّى لو انغمس وأخرج حيّاً ينزح جميع الماء .
9 - ويقول ابن قدامة الحنبليّ : ويحتمل أن ينجّس الكافر الماء بانغماسه ، لأنّ الخبر ورد في المسلم . وإذا انغمس في البئر من به نجاسة حكميّة ، بأن كان جنباً أو محدثاً ، فإنّه ينظر : إمّا أن يكون ماء البئر كثيراً أو قليلاً ، وإمّا أن يكون قد نوى بالانغماس رفع الحدث . وإمّا أن يكون بقصد التّبرّد أو إحضار الدّلو . فإن كان البئر معيناً ، أي ماؤه جار ، فإنّ انغماس الجنب ومن في حكمه لا ينجّسه عند ابن القاسم من المالكيّة ، وهو رواية يحيى بن سعيد عن مالك . وهو مذهب الحنابلة إن لم ينو رفع الحدث . وهو اتّجاه من قال من الحنفيّة إنّ الماء المستعمل طاهر لغلبة غير المستعمل ، أو لأنّ الانغماس لا يصيّره مستعملاً ، وعلى هذا فلا ينزح منه شيء .
10 - ويرى الشّافعيّة كراهة انغماس الجنب ومن في حكمه في البئر ، وإن كان معيناً ، لخبر أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يغتسل أحدكم في الماء الدّائم وهو جنب » . وهو رواية عليّ بن زياد عن مالك ، ومذهب الحنابلة إن نوى رفع الحدث . وإلى هذا يتّجه من يرى من الحنفيّة أنّ الماء بالانغماس يصير مستعملاً ، ويرى أنّ الماء المستعمل نجس ينزح كلّه وعن أبي حنيفة ينزح أربعون دلواً ، لو كان محدثاً ، وينزح جميعه لو كان جنباً أو كافراً ، لأنّ بدن الكافر لا يخلو من نجاسة حقيقيّة أو حكميّة ، إلاّ إذا تثبّتنا من طهارته وقت انغماسه .
11 - وإذا كان ماء البئر قليلاً وانغمس فيه بغير نيّة رفع الحدث ، فالمالكيّة على أنّ الماء المجاور فقط يصير مستعملاً وعند الشّافعيّة والحنابلة الماء على طهوريّته . واختلف الحنفيّة على ثلاثة أقوال ترمز لها كتبهم : « مسألة البئر جحط » ويرمزون بالجيم إلى ما قاله الإمام من أنّ الماء نجس بإسقاط الفرض عن البعض بأوّل الملاقاة ، والرّجل نجس لبقاء الحدث في بقيّة الأعضاء ، أو لنجاسة الماء المستعمل ، ويرمزون بالحاء لرأي أبي يوسف من أنّ الرّجل على حاله من الحدث ، لعدم الصّبّ ، وهو شرط عنده ، والماء على حاله لعدم نيّة القربة ، وعدم إزالة الحدث . ويرمزون بالطّاء لرأي محمّد بن الحسن من أنّ الرّجل طاهر لعدم اشتراط الصّبّ ، وكذا الماء ، لعدم نيّة القربة .
12 - أمّا إذا انغمس في الماء القليل بنيّة رفع الحدث كان الماء كلّه مستعملاً عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، لكن عند الحنابلة يبقى الماء على طهوريّته ولا يرفع الحدث . وكذلك يكون الماء مستعملاً عند الحنفيّة لو تدلّك ولو لم ينو رفع الحدث ، لأنّ التّدلّك فعل منه يقوم مقام نيّة رفع الحدث .
13 - أمّا إذا انغمس إنسان في ماء البئر وعلى بدنه نجاسة حقيقيّة ، أو ألقي فيه شيء نجس ، فمن المتّفق عليه أنّ الماء الكثير لا يتنجّس بشيء ، ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، على ما سبق . غير أنّ الحنابلة ، في أشهر روايتين عندهم ، يرون أنّ ما يمكن نزحه ، إذا بلغ قلّتين ، فلا يتنجّس بشيء من النّجاسات ، إلاّ ببول الآدميّين أو عذرتهم المائعة . وجه ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم الّذي لا يجري ثمّ يغتسل فيه » . وكذلك إذا ما سقط فيه شيء نجس ، وفي مقابل المشهور في مذهب أحمد أنّ الماء لا ينجس إلاّ بالتّغيّر قليله وكثيره .
14 - وقد فصّل الحنفيّة هذا بما لم يفصّله غيرهم ، ونصّوا على أنّ الماء لا ينجس بخرء الحمام والعصفور ، ولو كان كثيراً ، لأنّه طاهر استحساناً ، بدلالة الإجماع ، فإنّ الصّدر الأوّل ومن بعدهم أجمعوا على جواز اقتناء الحمام في المساجد ، حتّى المسجد الحرام ، مع ورود الأمر بتطهيرها . وفي ذلك دلالة ظاهرة على عدم نجاسته . وخرء العصفور كخرء الحمامة ، فما يدلّ على طهارة هذا يدلّ على طهارة ذاك . وكذلك خرء جميع ما يؤكل لحمه من الطّيور على الأرجح .
المبحث الرّابع
أثر وقوع حيوان في البئر
15 - الأصل أنّ الماء الكثير لا ينجس إلاّ بتغيّر أحد أوصافه كما سبق . واتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ ما ليس له نفس سائلة ، إذا ما وقع في ماء البئر ، لا يؤثّر في طهارته ، كالنّحل ، لحديث سعيد بن المسيّب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ طعام وشراب وقعت فيه دابّة ليس لها دم فماتت فهو حلال » . وممّا قيل في توجيهه أنّ المنجّس له الدّماء السّائلة ، فما لا دم له سائلاً لا يتنجّس بالموت ما مات فيه من المائعات . وكذا ما كان مأكول اللّحم ، إذا لم يكن يعلم أنّ على بدنه أو مخرجه نجاسةً ، وخرج حيّاً ، ما دام لم يتسبّب في تغيّر أحد أوصاف الماء ، عدا ما كان نجس العين كالخنزير . ويرى الحنابلة وبعض الحنفيّة أنّ المعتبر السّؤر ، فإن كان لم يصل فمه إلى الماء لا ينزح منه شيء ، وإن وصل وكان سؤره طاهراً فإنّه طاهر . يقول الكاسانيّ : وقال البعض : المعتبر السّؤر . ويقول ابن قدامة : وكلّ حيوان حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطّهارة والنّجاسة . وينظر حكم السّؤر في مصطلح « سؤر » .
16 - ويختلف الفقهاء فيما وراء ذلك ، فغير الحنفيّة من فقهاء المذاهب الأربعة يتّجهون إلى عدم التّوسّع في الحكم بالتّنجّس بوقوع الحيوان ذي النّفس السّائلة ( الدّم السّائل ) عموماً وإن وجد بعض اختلاف بينهم . فالمالكيّة ينصّون على أنّ الماء الرّاكد ، أو الّذي له مادّة ، أو كان الماء جارياً ، إذا مات فيه حيوان برّيّ ذو نفس سائلة ، أو حيوان بحريّ ، لا ينجس ، وإن كان يندب نزح قدر معيّن ، لاحتمال نزول فضلات من الميّت ، ولأنّه تعافه النّفس . وإذا وقع شيء من ذلك ، وأخرج حيّاً ، أو وقع بعد أن مات بالخارج ، فإنّ الماء لا ينجس ولا ينزح منه شيء ، لأنّ سقوط النّجاسة بالماء لا يطلب بسببه النّزح . وإنّما يوجب الخلاف فيه إذا كان يسيراً . وموت الدّابّة بخلاف ذلك فيها . ولأنّ سقوط الدّابّة بعد موتها في الماء هو بمنزلة سقوط سائر النّجاسات من بول وغائط ، وذاتها صارت نجسةً بالموت . فلو طلب النّزح في سقوطها ميّتةً لطلب في سائر النّجاسات ، ولا قائل بذلك في المذهب . وقيل : يستحبّ النّزح بحسب كبر الدّابّة وصغرها ، وكثرة ماء البئر وقلّته . وعن ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ : أنّ الآبار الصّغار ، مثل آبار الدّور ، تفسد بما وقع فيها حيّاً ، ثمّ مات فيها ، من شاة أو دجاجة ، وإن لم تتغيّر ، ولا تفسد بما وقع فيها ميّتاً حتّى تتغيّر . وأمّا ما وقع فيها ميّتاً فقيل : إنّه بمنزلة ما مات فيه ، وقيل : لا تفسد حتّى تتغيّر . وقالوا : إذا تغيّر الماء طعماً أو لوناً أو ريحاً بتفسّخ الحيوان فيه تنجّس .
17 - وقال الشّافعيّة : إذا كان ماء البئر كثيراً طاهراً ، وتفتّتت فيه نجاسة ، كفأرة تمعّط شعرها بحيث لا يخلو دلو من شعرة ، فهو طهور كما كان إن لم يتغيّر . وعلى القول بأنّ الشّعر نجس ينزح الماء كلّه ليذهب الشّعر ، مع ملاحظة أنّ اليسير عرفاً من الشّعر معفوّ عنه ما عدا شعر الكلب والخنزير . ويفهم من هذا أنّ ماء البئر إذا كان قليلاً فإنّه يتنجّس ولو لم يتغيّر ، وهو ما رواه ابن الماجشون ومن معه من المالكيّة في الآبار الصّغار إذا مات فيها حيوان ذو نفس سائلة .
18 - ويقول الحنابلة : إذا وقعت الفأرة أو الهرّة في ماء يسير ، ثمّ خرجت حيّةً ، فهو طاهر ، لأنّ الأصل الطّهارة . وإصابة الماء لموضع النّجاسة مشكوك فيه . وكلّ حيوان حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطّهارة والنّجاسة . ويفهم من قيد " ثمّ خرجت حيّةً " أنّها لو ماتت فيه يتنجّس الماء ، كما يفهم من تقييد الماء " باليسير " أنّ الماء الكثير لا ينجس إلاّ إذا تغيّر وصفه .
19 - أمّا الحنفيّة فقد أكثروا من التّفصيلات ، فنصّوا على أنّ الفأرة إذا وقعت هاربةً من القطّ ينزح كلّ الماء ، لأنّها تبول . وكذلك إذا كانت مجروحةً أو متنجّسةً . وقالوا : إن كانت البئر معيناً ، أو الماء عشراً في عشر ، لكن تغيّر أحد أوصافه ، ولم يمكن نزحها ، نزح قدر ما كان فيها .
20 - وإذا كانت البئر غير معين ، ولا عشراً في عشر ، نزح منها عشرون دلواً بطريق الوجوب ، إلى ثلاثين ندباً ، بموت فأرة أو عصفور أو سامّ أبرص . ولو وقع أكثر من فأرة إلى الأربع فكالواحدة عند أبي يوسف ، ولو خمساً إلى التّسع كالدّجاجة ، وعشراً كالشّاة ، ولو فأرتين كهيئة الدّجاجة ينزح أربعون عند محمّد . وإذا مات فيها حمامة أو دجاجة أو سنّور ينزح أربعون وجوباً إلى ستّين استحباباً . وفي رواية إلى خمسين . وينزح كلّه لسنّورين وشاة ، أو انتفاخ الحيوان الدّمويّ ، أو تفسّخه ولو صغيراً . وبانغماس كلب حتّى لو خرج حيّاً . وكذا كلّ ما سؤره نجس أو مشكوك فيه . وقالوا في الشّاة : إن خرجت حيّةً فإن كانت هاربةً من السّبع نزح كلّه خلافاً لمحمّد . وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف في البقر والإبل أنّه ينجّس الماء ، لأنّها تبول بين أفخاذها فلا تخلو من البول . ويرى أبو حنيفة نزح عشرين دلواً ، لأنّ بول ما يؤكل لحمه نجس نجاسةً خفيفةً ، وقد ازداد خفّةً بسبب البئر فيكفي نزح أدنى ما ينزح . وعن أبي يوسف : ينزح ماء البئر كلّه ، لاستواء النّجاسة الخفيفة والغليظة في حكم تنجّس الماء .
المبحث الخامس
تطهير الآبار وحكم تغويرها
21 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا تنجّس ماء البئر فإنّ التّكثير طريق تطهيره عند تنجّسها إذا زال التّغيّر . ويكون التّكثير بالتّرك حتّى يزيد الماء ويصل حدّ الكثرة ، أو بصبّ ماء طاهر فيه حتّى يصل هذا الحدّ . وأضاف المالكيّة طرقاً أخرى ، إذ يقولون : إذا تغيّر ماء البئر بتفسّخ الحيوان طعماً أو لوناً أو ريحاً يطهر بالنّزح ، أو بزوال أثر النّجاسة بأيّ شيء . بل قال بعضهم : إذا زالت النّجاسة من نفسها طهر . وقالوا في بئر الدّار المنتنة : طهور مائها بنزح ما يذهب نتنه .
22 - ويقصر الشّافعيّة التّطهير على التّكثير فقط إذا كان الماء قليلاً ( دون القلّتين ) ، إمّا بالتّرك حتّى يزيد الماء ، أو بصبّ ماء عليه ليكثر ، ولا يعتبرون النّزح لينبع الماء الطّهور بعده ، لأنّه وإن نزح فقعر البئر يبقى نجساً كما تتنجّس جدران البئر بالنّزح . وقالوا : فيما إذا وقع في البئر شيء نجس ، كفأرة تمعّط شعرها ، فإنّ الماء ينزح لا لتطهير الماء ، وإنّما بقصد التّخلّص من الشّعر .
23 - ويفصّل الحنابلة في التّطهير بالتّكثير ، إذا كان الماء المتنجّس قليلاً ، أو كثيراً لا يشقّ نزحه ويخصّون ذلك بما إذا كان تنجّس الماء بغير بول الآدميّ أو عذرته . ويكون التّكثير بإضافة ماء طهور كثير ، حتّى يعود الكلّ طهوراً بزوال التّغيّر . أمّا إذا كان تنجّس الماء ببول الآدميّ أو عذرته فإنّه يجب نزح مائها ، فإن شقّ ذلك فإنّه يطهر بزوال تغيّره ، سواء بنزح ما لا يشقّ نزحه ، أو بإضافة ماء إليه ، أو بطول المكث . على أنّ النّزح إذا زال به التّغيّر وكان الباقي من الماء كثيراً ( قلّتين فأكثر ) يعتبر مطهّراً عند الشّافعيّة .
24 - أمّا الحنفيّة فيقصرون التّطهير على النّزح فقط ، لكلّ ماء البئر ، أو عدد محدّد من الدّلاء على ما سبق . وإذا كان المالكيّة والحنابلة اعتبروا النّزح طريقاً للتّطهير فإنّه غير متعيّن عندهم كما أنّهم لم يحدّدوا مقداراً من الدّلاء وإنّما يتركون ذلك لتقدير النّازح . ومن أجل هذا نجد الحنفيّة هم الّذين فصّلوا الكلام في النّزح ، وهم الّذين تكلّموا على آلة النّزح ، وما يكون عليه حجمها .
25 - فإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت ، وكان نزح ما فيها من الماء طهارةً لها . لأنّ الأصل في البئر أنّه وجد فيها قياسان : أحدهما : أنّها لا تطهر أصلاً ، لعدم الإمكان ، لاختلاط النّجاسة بالأوحال والجدران . الثّاني : لا تنجس ، إذ يسقط حكم النّجاسة ، لتعذّر الاحتراز أو التّطهير . وقد تركوا القياسين الظّاهرين بالخبر والأثر ، وضرب من الفقه الخفيّ وقالوا : إنّ مسائل الآبار مبنيّة على اتّباع الآثار . أمّا الخبر فما روى من « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في البئر ينزح منها عشرون » وفي رواية « ينزح منها ثلاثون دلواً » . وأمّا الأثر فما روي عن عليّ أنّه قال : ينزح عشرون . وفي رواية ثلاثون وعن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال في دجاجة ماتت في البئر : ينزح منها أربعون دلواً . وعن ابن عبّاس وابن الزّبير أنّهما أمرا بنزح ماء زمزم حين مات فيها زنجيّ . وكان بمحضر من الصّحابة ، ولم ينكر عليهما أحد . وأمّا الفقه الخفيّ فهو أنّ في هذه الأشياء دماً سائلاً وقد تشرّب في أجزائها عند الموت فنجّسها . وقد جاورت هذه الأشياء الماء ، وهو ينجس أو يفسد بمجاورة النّجس ، حتّى قال محمّد بن الحسن : إذا وقع في البئر ذنب فأرة ، ينزح جميع الماء ، لأنّ موضع القطع لا ينفكّ عن بلّة ، فيجاور أجزاء الماء فيفسدها .
26 - وقالوا : لو نزح ماء البئر ، وبقي الدّلو الأخير فإن لم ينفصل عن وجه الماء لا يحكم بطهارة البئر ، وإن انفصل عن وجه الماء ، ونحّي عن رأس البئر ، طهر . وأمّا إذا انفصل عن وجه الماء ، ولم ينحّ عن رأس البئر ، والماء يتقاطر فيه ، لا يطهر عند أبي يوسف . وذكر الحاكم أنّه قول أبي حنيفة أيضاً . وعند محمّد يطهر . وجه قول محمّد أنّ النّجس انفصل من الطّاهر ، فإنّ الدّلو الأخير تعيّن للنّجاسة شرعاً ، بدليل أنّه إذا نحّي عن رأس البئر يبقى الماء طاهراً ، وما يتقاطر فيها من الدّلو سقط اعتبار نجاسته شرعاً دفعاً للحرج . ووجه قولهما أنّه لا يمكن الحكم بالطّهارة إلاّ بعد انفصال النّجس عنها ، وهو ماء الدّلو الأخير ، ولا يتحقّق الانفصال إلاّ بعد تنحية الدّلو عن البئر ، لأنّ ماءه متّصل بماء البئر . واعتبار نجاسة القطرات لا يجوز إلاّ لضرورة ، والضّرورة تندفع بأن يعطى لهذا الدّلو حكم الانفصال بعد انعدام التّقاطر ، بالتّنحية عن رأس البئر .
27 - وإذا وجب نزح جميع الماء من البئر ينبغي أن تسدّ جميع منابع الماء إن أمكن ، ثمّ ينزح ما فيها من الماء النّجس . وإن لم يمكن سدّ منابعه لغلبة الماء روي عن أبي حنيفة أنّه ينزح مائة دلو ، وعن محمّد أنّه ينزح مائتا دلو ، أو ثلثمائة دلو . وعن أبي يوسف روايتان في رواية يحفر بجانبها حفرة مقدار عرض الماء وطوله وعمقه ثمّ ينزح ماؤها ويصبّ في الحفرة حتّى تمتلئ فإذا امتلأت حكم بطهارة البئر ، وفي رواية : يرسل فيها قصبة ، ويجعل لمبلغ الماء علامة ، ثمّ ينزح منها عشر دلاء مثلاً ، ثمّ ينظر كم انتقص ، فينزح بقدر ذلك ، ولكنّ هذا لا يستقيم إلاّ إذا كان دور البئر من أوّل حدّ الماء إلى مقرّ البئر متساوياً ، وإلاّ لا يلزم إذا نقص شبر بنزح عشر دلاء من أعلى الماء أن ينقص شبر بنزح مثله من أسفله . والأوفق ما روي عن أبي نصر أنّه يؤتى برجلين لهما بصر في أمر الماء فينزح بقولهما ، لأنّ ما يعرف بالاجتهاد يرجع فيه لأهل الخبرة .
28 - والمالكيّة كما بيّنّا يرون أنّ النّزح طريق من طرق التّطهير . ولم يحدّدوا قدراً للنّزح ، وقالوا : إنّه يترك مقدار النّزح لظنّ النّازح . قالوا : وينبغي للتّطهير أن ترفع الدّلاء ناقصةً ، لأنّ الخارج من الحيوان عند الموت موادّ دهنيّة ، وشأن الدّهن أن يطفو على وجه الماء ، فإذا امتلأ الدّلو خشي أن يرجع إلى البئر . والحنابلة قالوا : لا يجب غسل جوانب بئر نزحت ، ضيّقةً كانت أو واسعةً ، ولا غسل أرضها ، بخلاف رأسها . وقيل يجب غسل ذلك . وقيل إنّ الرّوايتين في البئر الواسعة . أمّا الضّيّقة فيجب غسلها روايةً واحدةً . وقد بيّنّا أنّ الشّافعيّة لا يرون التّطهير بمجرّد النّزح .
آلة النّزح
29 - منهج الحنفيّة ، القائل بمقدار معيّن من الدّلاء للتّطهير في بعض الحالات ، يتطلّب بيان حجم الدّلو الّذي ينزح به الماء النّجس . فقال البعض : المعتبر في كلّ بئر دلوها ، صغيراً كان أو كبيراً . وروي عن أبي حنيفة أنّه يعتبر دلو يسع قدر صاع . وقيل المعتبر هو المتوسّط بين الصّغير والكبير . ولو نزح بدلو عظيم مرّةً مقدار عشرين دلواً جاز . وقال زفر : لا يجوز ، لأنّه بتواتر الدّلو يصير كالماء الجاري . وبطهارة البئر يطهر الدّلو والرّشاء والبكرة ونواحي البئر ويد المستقي . روي عن أبي يوسف أنّ نجاسة هذه الأشياء بنجاسة البئر ، فتكون طهارتها بطهارتها ، نفياً للحرج . وقيل : لا تطهر الدّلو في حقّ بئر أخرى ، كدم الشّهيد طاهر في حقّ نفسه لا في حقّ غيره .
30 - ولم يتعرّض فقهاء المذاهب الأخرى - على ما نعلم - لمقدار آلة النّزح . وكلّ ما قالوه أنّ ماء البئر إذا كان قليلاً ، وتنجّس ، فإنّ الدّلو إذا ما غرف به من الماء النّجس القليل تنجّس من الظّاهر والباطن . وإذا كان الماء مقدار قلّتين فقط ، وفيه نجاسة جامدة ، وغرف بالدّلو من هذا الماء ، ولم تغرف العين النّجسة في الدّلو مع الماء فباطن الدّلو طاهر ، وظاهره نجس ، لأنّه بعد غرف الدّلو يكون الماء الباقي في البئر والّذي احتكّ به ظاهر الدّلو قليلاً نجساً . واستظهر البهوتيّ من قول الحنابلة بعدم غسل جوانب البئر للمشقّة ووجوب غسل رأسها لعدم المشقّة ، وجوب غسل آلة النّضح إلحاقاً لها برأس البئر في عدم مشقّة الغسل . وقال : إنّ مقتضى قولهم : المنزوح طهور أنّ الآلة لا يعتبر فيها ذلك للحرج .
تغوير الآبار
31 - كتب المذاهب تذكر اتّفاق الفقهاء على أنّه إذا دعت الحاجة إلى تخريب وإتلاف بعض أموال الكفّار وتغوير الآبار لقطع الماء عنهم جاز ذلك . بدليل « فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين أمر بالقلب فغوّرت » .
المبحث السّادس
آبار لها أحكام خاصّة
آبار أرض العذاب وحكم التّطهّر والتّطهير بمائها
32 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى صحّة التّطهّر والتّطهير بمائها مع الكراهة . واستظهر الأجهوريّ من المالكيّة هذا الرّأي . وهو رواية عند الحنابلة ، لكنّها غير ظاهر القول . ودليلهم على صحّة التّطهير بمائها العمومات الدّالّة على طهارة جميع المياه ما لم تتنجّس أو يتغيّر أحد أوصاف الماء ، والدّليل على الكراهية أنّه يخشى أن يصاب مستعمله بأذًى لأنّها مظنّة العذاب . وينقل العدويّ من المالكيّة أنّ غير الأجهوريّ جزم بعدم صحّة التّطهير بماء هذه الآبار . وهي الرّواية الظّاهرة عند الحنابلة في آبار أرض ثمود ، كبئر ذي أروان وبئر برهوت ، عدا بئر النّاقة . والدّليل على عدم صحّة التّطهير بماء هذه الآبار أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإهراق الماء الّذي استقاه أصحابه من آبار أرض ثمود ، فإنّ أمره بإهراقها يدلّ على أنّ ماءها لا يصحّ التّطهير به . وهذا النّهي وإن كان وارداً في الآبار الموجودة بأرض ثمود إلاّ أنّ غيرها من الآبار الموجودة بأرض غضب اللّه على أهلها يأخذ حكمها بالقياس عليها بجامع أنّ كلّاً منها موجود في أرض نزل العذاب بأهلها . أمّا الحنابلة فقد أبقوا ما وراء أرض ثمود على القول بطهارتها ، وحملوا النّهي على الكراهة ، وكذلك حكموا بالكراهة على الآبار الموجودة بالمقابر ، والآبار في الأرض المغصوبة ، والّتي حفرت بمال مغصوب .
البئر الّتي خصّت بالفضل
33 - بئر زمزم بمكّة لها مكانة إسلاميّة . روى ابن عبّاس أنّ رسول اللّه قال : « خير ماء على وجه الأرض زمزم » . وعنه أنّ رسول اللّه قال : « ماء زمزم لما شرب له ، إن شربته تستشفي به شفاك اللّه ، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه اللّه » . وللشّرب منه واستعماله آداب نصّ عليها الفقهاء . فقالوا : إنّه يستحبّ لشاربه أن يستقبل القبلة ، ويذكر اسم اللّه تعالى ، ويتنفّس ثلاثاً ، ويتضلّع منه ، ويحمد اللّه تعالى ، ويدعو بما كان ابن عبّاس يدعو به إذا شرب منه " اللّهمّ إنّي أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، وشفاءً من كلّ داء » . ويقول : « اللّهمّ إنّه بلغني عن نبيّك صلى الله عليه وسلم أنّ ماء زمزم لما شرب له وأنا أشربه لكذا » .
34 - ويجوز بالاتّفاق نقل شيء من مائها . والأصل في جواز نقله ما جاء في جامع التّرمذيّ عن السّيّدة عائشة أنّها حملت من ماء زمزم في القوارير ، وقالت : « حمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منها . وكان يصبّ على المرضى ، ويسقيهم » . وروى ابن عبّاس « أنّ رسول اللّه استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم » . كما اتّفقوا على عدم استعماله في مواضع الامتهان ، كإزالة النّجاسة الحقيقيّة . ويجزم المحبّ الطّبريّ الشّافعيّ بتحريم ذلك . وهو ما يحتمله كلام ابن شعبان المالكيّ ، وما رواه ابن عابدين عن بعض الحنفيّة ، لكنّ أصل المذهب الحنفيّ والمذهب المالكيّ الكراهة ، وهو ما عبّر به الرّويانيّ الشّافعيّ في " الحلية " ، وصرّح به البيجوريّ ، واستظهره القاضي زكريّا ، وقال : إنّ المنع على وجه الأدب ، وهو المعبّر عنه هنا من بعض فقهاء الشّافعيّة بخلاف الأولى . واتّفقوا على أنّه لا ينبغي أن يغسّل به ميّت ابتداءً . ونقل الفاكهيّ أنّ أهل مكّة يغسلون موتاهم بماء زمزم إذا فرغوا من غسل الميّت وتنظيفه ، تبرّكاً به ، وأنّ أسماء بنت أبي بكر غسّلت ابنها عبد اللّه بن الزّبير بماء زمزم .
35 - ولا خلاف معتبراً في جواز الوضوء والغسل به لمن كان طاهر الأعضاء ، بل صرّح البعض باستحباب ذلك . ولا يعوّل على القول بالكراهة اعتماداً على أنّه طعام ، لما روي عن الرّسول صلى الله عليه وسلم من قوله : « هو طعام . . . » ويدلّ على عدم الكراهة ما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضّأ » . ويقول الفاسيّ المالكيّ : التّطهير بماء زمزم صحيح بالإجماع ، على ما ذكره الماورديّ في حاويه ، والنّوويّ في شرح المهذّب . ومقتضى ما ذكره ابن حبيب المالكيّ استحباب التّوضّؤ به . وكونه مباركاً لا يمنع الوضوء به ، كالماء الّذي وضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يده فيه . وقد صرّح الشّافعيّة بجواز استعمال ماء زمزم في الحدث دون الخبث . وهو ما يفيده عموم قول الحنابلة : ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم على ما هو الأولى في المذهب . أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بأنّه لا يغتسل به جنب ولا محدث .
آبد
التّعريف
1 - من معاني الآبد في اللّغة أنّه وصف يوصف به الحيوان المتوحّش ، يقال : أبدت البهيمة أي توحّشت ، والآبدة : هي الّتي توحّشت ونفرت من الإنس .
وفي اصطلاح الفقهاء يستنبط المعنى الشّرعيّ من استعمالات الفقهاء ، ومواطن بحثهم ، حيث وجدنا الفقهاء يستعملون ذلك في شيئين :
أوّلهما : الحيوان المتوحّش ، سواء أكان توحّشه أصليّاً أم طارئاً .
وثانيهما : الحيوان الأليف إذا ندّ ( شرد ونفر ) .
( الحكم الإجماليّ )
2 - الآبد من الحيوان يلحق حكمه بالصّيد والذّبائح واللّقطة ، فإذا ندّ بعير أو نحوه من الحيوانات الأليفة المأكولة ، فلم يقدر عليه ، جاز أن يضرب بسهم أو نحوه من آلات الصّيد . فإن قتله ذلك فهو حلال . ويعتبر فيه حينئذ ما يعتبر في الصّيد . والحيوان الوحشيّ إن قدر على ذبحه ، أو استأنس ، لا يحلّ إلاّ بذبحه . وهو على حكم الإباحة ، كالحشيش والحطب ، ومياه الأمطار . ويملكه من أخذه . ويرجع في تفصيل ذلك إلى كتاب الصّيد . أمّا الحيوان المستأنس المملوك إذا أبد فإمّا أن يمتنع بنفسه من صغار السّباع أو لا ، وقد فصّل الفقهاء حكم ملكيّته السّابقة ، وبالنّسبة لمن التقطه ، على خلاف بينهم .
( مواطن البحث )
3 - فصّل الفقهاء أحكام الآبد في الصّيد والذّبائح ، في بيان الخلاف في الشّارد ونحوه ، وفي اللّقطة .
آبق
انظر : إباق .
آجرّ
التّعريف
1 - الآجرّ لغةً : الطّين المطبوخ . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك إذ قالوا : هو اللّبن المحرّق .
( الألفاظ ذات الصّلة )
2 - الآجرّ يخالف الحجر والرّمل في أنّه خرج عن أصله بالطّبخ والصّنعة ، بخلافهما . ويخالف الجصّ والجبس أيضاً إذ هما حجر محرّق .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) :
3 - لا يصحّ التّيمّم بالآجرّ إلاّ عند الحنفيّة ، ويصحّ الاستنجاء به عند الجميع . غير أنّه مع الصّحّة يكره تحريماً إن كان ذا قيمة عند الحنفيّة دون غيرهم . ولو عجن بنجس ففي طهارته أو نجاسته خلاف بين الفقهاء ، ولهم في ذلك تشقيقات وتفريعات في مبحث النّجاسات . وعلى الحكم بطهارته ونجاسته يترتّب صحّة بيعه وفساده . ومحلّ ذلك في البيع " شرائط المعقود عليه " وبالإضافة إلى ما تقدّم يتناول الفقهاء ( الآجرّ ) في الدّفن وحثو القبر به . وفي السّلم عن حكم السّلم فيه . وفي الغصب إن جعل التّراب آجرّاً .
آجن
التّعريف
1 - الآجن في اللّغة : اسم فاعل من أجن الماء ، من بابي ضرب وقعد ، إذا تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه بسبب طول مكثه ، إلاّ أنّه يشرب ، وقيل هو ما غشيه الطّحلب والورق . ويقرب من الآجن " الآسن " إلاّ أنّ الآسن أشدّ تغيّراً بحيث لا يقدر على شربه ، ولم يفرّق بعضهم بينهما . والمراد به في الفقه ما تغيّر بعض أوصافه أو كلّها بسبب طول المكث . سواء أكان يشرب عادةً أم لا يشرب ، كما يستفاد ذلك من إطلاق عباراتهم .
( الحكم الإجماليّ )
2 - الماء الآجن ماء مطلق ، وهو في الجملة طاهر مطهّر ، على خلاف وتفصيل في ذلك .
مواطن البحث
3 - يذكر الماء الآجن في كتاب الطّهارة - باب المياه . وجمهور الفقهاء لم يذكروه بهذا اللّفظ ، بل ذكروه بالمعنى فوصفوه بالمتغيّر بالمكث أو المنتن ونحو ذلك .
آداب الخلاء
انظر : قضاء الحاجة .
آدر
التّعريف
1 - الآدر : من به أدرة . والأدرة بوزن غرفة انتفاخ الخصية ، يقال : أدر يأدر ، من باب تعب ، فهو آدر ، والجمع : أدر ، مثل أحمر وحمر . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ ، فهو عندهم وصف للرّجل عند انتفاخ الخصيتين أو إحداهما . ويقابله في المرأة العفلة ، وهي ورم ينبت في قبل المرأة . وقيل : هي لحم فيه .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث )
2 - لمّا كانت الأدرة نوعاً من الخلل في بنية الإنسان توجب شيئاً من النّفرة منه ، وتعوقه عن بعض التّصرّفات في شؤونه وأعماله ، اعتبرها بعض الفقهاء عيباً . واختلفوا أهي من العيوب الّتي يثبت بها الخيار في البيع وفي النّكاح أم لا . هذا وتفصيل أحكام الأدرة عند الفقهاء في فسخ النّكاح ، والخيار فيه ، وفي خيار العيب في البيوع .
آدميّ
التّعريف
1 - الآدميّ منسوب إلى آدم أبي البشر عليه السلام ، بأن يكون من أولاده . والفقهاء يستعملونه بنفس المعنى . ويرادفه عندهم : إنسان وشخص وبشر .
( الحكم الإجماليّ )
2 - اتّفق الفقهاء على وجوب تكريم الآدميّ باعتباره إنساناً ، بصرف النّظر عمّا يتّصف به من ذكورة وأنوثة ، ومن إسلام وكفر ، ومن صغر وكبر ، وذلك عملاً بقول اللّه تعالى : { ولقد كرّمنا بني آدم } . أمّا بالنّظر إليه موصوفاً بصفة ما فإنّه يتعلّق به مع الحكم العامّ أحكام أخرى تتّصل بهذه الصّفة .
( مواطن البحث )
3 - لتكريم الآدميّ في حياته ومماته مظاهر كثيرة ، في مواطن متعدّدة ، تتعلّق بها أحكام فقهيّة تدور حول تسميته وأهليّته وطهارته وعصمة دمه وماله وعرضه ودفنه ، وغير ذلك . ويفصّل الفقهاء أحكام ذلك في مباحث الأنجاس ، والطّهارة ، والجنايات ، والحدود ، والجنائز ، وفي الأهليّة عند الأصوليّين .
آسن
انظر : آجن .
آفاقيّ
التّعريف
1 - الآفاقيّ لغةً نسبة إلى الآفاق ، وهي جمع أفق ، وهو ما يظهر من نواحي الفلك وأطراف الأرض . والنّسبة إليه أفقيّ . وإنّما نسبه الفقهاء إلى الجمع لأنّ الآفاق صار كالعلم على ما كان خارج الحرم من البلاد . والفقهاء يطلقون هذه اللّفظة على من كان خارج المواقيت المكانيّة للإحرام ، حتّى لو كان مكّيّاً . ويقابل الآفاقيّ الحلّيّ ، وقد يسمّى " البستانيّ " وهو من كان داخل المواقيت ، وخارج الحرم ، والحرميّ ، وهو من كان داخل حدود حرم مكّة . وقد يطلق بعض الفقهاء لفظ « آفاقيّ " على من كان خارج حدود حرم مكّة .
( الحكم الإجماليّ )
2 - يشترك الآفاقيّ مع غيره في كلّ ما يتعلّق بالحجّ ، ما عدا ثلاثة أشياء ، وما يتعلّق بها : الأوّل : الإحرام من الميقات : حدّد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للآفاقيّ مواقيت ، وضّحها الفقهاء ، لا ينبغي له أن يتجاوزها إذا قصد النّسك بدون إحرام ، على تفصيل يرجع إليه في مباحث الإحرام والمواقيت المكانيّة . الثّاني : طواف الوداع وطواف القدوم : خصّ الآفاقيّ بطواف الوداع ، وطواف القدوم ، لأنّه القادم إلى البيت والمودّع له . الثّالث : القران والتّمتّع : خصّ الآفاقيّ بالقران والتّمتّع .
( مواطن البحث )
3 - ويفصّل الفقهاء ذلك في مباحث القران والتّمتّع من أحكام الحجّ .
( آفة )
التّعريف
1 - الآفة : لغةً العاهة ، وهي العرض المفسد لما أصابه . والفقهاء يستعملون الآفة بنفس المعنى ، إلاّ أنّهم غالباً ما يقيّدونها بكونها سماويّةً ، وهي ما لا صنع لآدميّ فيها . ويذكر الفقهاء أيضاً أنّ الجائحة هي الآفة الّتي تصيب الثّمر أو النّبات ، ولا دخل لآدميّ فيها . وكثيراً ما يذكرون الألفاظ الدّالّة على أثر الآفة من تلف وهلاك ، ويفرّقون في الحكم بين ما هو سماويّ وبين غيره . والأصوليّون يذكرون الآفة أثناء الكلام على عوارض الأهليّة . ويقسّمون العوارض إلى سماويّة ، وهي ما كانت من قبل اللّه تعالى بلا اختيار للعبد فيها ، كالجنون والعته ، وإلى مكتسبة ، وهي ما يكون لاختيار العبد في حصولها مدخل ، كالجهل والسّفه . والآفة قد تكون عامّةً ، كالحرّ والبرد الشّديدين ، وقد تكون خاصّةً ، كالجنون .
( الحكم الإجماليّ )
2 - يختلف الحكم الوضعيّ المترتّب على ما تحدثه الآفة باختلاف المقصود ممّا أصابته ، وباختلاف ما تحدثه من ضرر . فللآفة عند الفقهاء أثر في ثبوت الخيار وفي الأرش والفسخ والرّدّ والبطلان وفي تأخير القصاص عند الخوف من ضرر الآفة وفي إسقاط الزّكاة وأجر الأجير . فمن إسقاطها الزّكاة مثلاً تلف الثّمار بآفة بعد وجوب الزّكاة فيها ، ومن إسقاطها الحدّ أن يجنّ الجاني قبل إقامة الحدّ عليه . وعلى الجملة فهي قد تسقط الضّمان ، وتؤثّر في العبادات إسقاطاً أو تخفيفاً .
( مواطن البحث )
3 - يأتي في كلام الفقهاء ذكر الآفة وما يرادفها لبيان الحكم المترتّب على أثر ما تحدثه ، في مسائل متعدّدة المواطن مفصّلة فيها الأحكام بالنّسبة لكلّ مسألة . ومن ذلك : البيع والإجارة والرّهن الوديعة والعاريّة والمساقاة والغصب والنّكاح والزّكاة وغير ذلك . ويأتي ذكرها عند الأصوليّين في مبحث الأهليّة . وينظر في الملحق الأصوليّ .
آكلة
انظر : أكلة .
آل
المبحث الأوّل
معنى الآل لغةً واصطلاحاً
التّعريف
1 - من معاني الآل في اللّغة الأتباع ، يقال : آل الرّجل : أي أتباعه وأولياؤه . ويستعمل فيما فيه شرف غالباً ، فلا يقال آل الإسكاف كما يقال أهله . وقد استعمل لفظ أهل مرادفاً للفظ آل ، لكن قد يكون لفظ أهل أخصّ إذا استعمل بمعنى زوجة ، كما في قوله تعالى خطاباً لزوجة إبراهيم عليه السلام عندما قالت : { أألد وأنا عجوز } ، { رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت } وقوله صلى الله عليه وسلم : « خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي » ، والمراد زوجاته . معنى الآل في اصطلاح الفقهاء :
2 - لم يتّفق الفقهاء على معنى الآل ، واختلفت لذلك الأحكام عندهم . فقد قال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : إنّ الآل والأهل بمعنًى واحد ، ولكنّ مدلوله عند كلّ منهم يختلف . فذهب الحنفيّة إلى أنّ أهل بيت الرّجل وآله وجنسه واحد . وهو كلّ من يشاركه في النّسب إلى أقصى أب له في الإسلام ، وهو الّذي أدرك الإسلام ، أسلم أو لم يسلم . وقيل يشترط إسلام الأب الأعلى . فكلّ من يناسبه إلى هذا الأب من الرّجال والنّساء والصّبيان فهو من أهل بيته . وقال المالكيّة : إنّ لفظ الآل يتناول العصبة ، ويتناول كلّ امرأة لو فرض أنّها رجل كان عاصباً . وقال الحنابلة : إنّ آل الشّخص وأهل بيته وقومه ونسباءه وقرابته بمعنًى واحد . وقال الشّافعيّة : إنّ آل الرّجل أقاربه ، وأهله من تلزمه نفقتهم ، وأهل بيته أقاربه وزوجته . وللآل إطلاق خاصّ في عبارات الصّلاة على النّبيّ وآله صلى الله عليه وسلم . فالأكثرون على أنّ المراد بهم قرابته عليه الصلاة والسلام الّذين حرمت عليهم الصّدقة . وقيل هم جميع أمّة الإجابة ، وإليه مال مالك ، واختاره الأزهريّ والنّوويّ من الشّافعيّة ، والمحقّقون من الحنفيّة ، وهو القول المقدّم عند الحنابلة ، وعبارة صاحب المغني : آل محمّد صلى الله عليه وسلم أتباعه على دينه .
المبحث الثّاني
أحكام الآل في الوقف والوصيّة
3 - قال الحنفيّة : لو قال الواقف : أرضي هذه صدقة موقوفة للّه عزّ وجلّ أبداً على أهل بيتي ، فإذا انقرضوا فهي وقف على المساكين ، تكون الغلّة للفقراء والأغنياء من أهل بيته ، ويدخل فيه أبوه وأبو أبيه وإن علا ، وولده وولد ولده وإن سفل ، الذّكور والإناث ، والصّغار والكبار ، والأحرار والعبيد ، فيه سواء ، والذّمّيّ فيه كالمسلم . ولا يدخل فيه الواقف ، ولا الأب الّذي أدرك الإسلام ، ولا الإناث من نسله إن كان آباؤهم من قوم آخرين . وإن كان آباؤهم ممّن يناسبه إلى جدّه الّذي أدرك الإسلام فهم من أهل بيته . والآل والأهل بمعنًى واحد عندهم في الوصيّة أيضاً ، فلو أوصى لآله أو أهله يدخل فيهم من جمعهم أقصى أب له في الإسلام . ويدخل في الوصيّة لأهل بيته أبوه وجدّه ممّن لا يرث . ولو أوصى لأهل فلان فالوصيّة لزوجة فلان في قول أبي حنيفة ، وعند الصّاحبين يدخل فيه جميع من تلزمه نفقتهم من الأحرار ، فيدخل فيه زوجته ، واليتيم في حجره ، والولد إذا كان يعوله . فإن كان كبيراً قد اعتزل ، أو بنتاً قد تزوّجت ، فليس من أهله . ولا يدخل فيه وارث الموصي ولا الموصى لأهله . وجه قول الصّاحبين أنّ الأهل عبارة عمّن ينفق عليه . قال اللّه تعالى خبراً عن سيّدنا نوح عليه السلام : { إنّ ابني من أهلي } وقال تعالى في قصّة لوط عليه السلام : { فنجّيناه وأهله } ووجه قول أبي حنيفة أنّ الأهل عند الإطلاق يراد به الزّوجة في متعارف النّاس ، يقال : فلان متأهّل ، وفلان لم يتأهّل ، وفلان ليس له أهل ، ويراد به الزّوجة ، فتحمل الوصيّة على ذلك . وقال المالكيّة : إنّ الواقف لو وقف على آله أو أهله شمل عصبته من أب وابن وجدّ وإخوة وأعمام وبنيهم الذّكور ، وشمل كلّ امرأة لو فرض أنّها رجل كان عاصباً ، سواء أكانت قبل التّقدير عصبةً بغيرها أم مع غيرها ، كأخت مع أخ أو مع بنت ، أم كانت غير عاصبة أصلاً ، كأمّ وجدّة . وإذا قال : أوصيت لأهلي بكذا ، اختصّ بالوصيّة أقاربه لأمّه ، لأنّهم غير ورثة للموصي ، ولا يدخل أقاربه لأبيه حيث كانوا يرثونه . وهذا إذا لم يكن له أقارب لأبيه لا يرثونه . فإن وجدوا اختصّوا بالوصيّة ، ولا يدخل معهم أقاربه لأمّه . وهذا قول ابن القاسم في الوصيّة والوقف . وقال غيره بدخول أقارب الأمّ مع أقارب الأب فيهما . وقال الشّافعيّة : إن أوصى الموصي لآل غيره صلى الله عليه وسلم صحّت الوصيّة ، وحمل على القرابة لا على أهل الدّين في أوجه الوجهين ، ولا يفوّض إلى اجتهاد الحاكم . وأهل البيت كالآل . وتدخل الزّوجة في أهل البيت أيضاً . وإن أوصى لأهله من غير ذكر البيت دخل كلّ من تلزمه مئونته . وقال الحنابلة : لو أوصى لآله أو أهله خرج الوارثون منهم ، إذ لا وصيّة لوارث ، ودخل من آله من لا يرث . المراد بآل محمّد صلى الله عليه وسلم عامّة :
4 - آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم هم آل عليّ ، وآل عبّاس ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل الحارث بن عبد المطّلب ، وآل أبي لهب . فإنّ عبد مناف وهو الأب الرّابع للنّبيّ صلى الله عليه وسلم أعقب أربعةً ، وهم هاشم والمطّلب ونوفل وعبد شمس . ثمّ إنّ هاشماً أعقب أربعةً ، انقطع نسبهم إلاّ عبد المطّلب ، فإنّه أعقب اثني عشر . آل محمّد صلى الله عليه وسلم الّذين لهم أحكام خاصّة :
5 - هم آل عليّ ، وآل عبّاس ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل الحارث بن عبد المطّلب ، ومواليهم ، خلافاً لابن القاسم من المالكيّة ومعه أكثر العلماء حيث لم يعدّوا الموالي من الآل . أمّا أزواجه صلى الله عليه وسلم فذكر أبو الحسن بن بطّال في شرح البخاريّ ، أنّ الفقهاء كافّةً اتّفقوا على أنّ أزواجه عليه الصلاة والسلام لا يدخلن في آله الّذين حرمت عليهم الصّدقة ، لكن في المغني عن عائشة رضي الله عنها ما يخالف ذلك . قال : روى الخلاّل بإسناده عن ابن أبي مليكة أنّ خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى عائشة رضي الله عنها سفرةً من الصّدقة ، فردّتها ، وقالت : إنّا آل محمّد لا تحلّ لنا الصّدقة . قال صاحب المغني : وهذا يدلّ على أنّهنّ من أهل بيته في تحريم الزّكاة وذكر الشّيخ تقيّ الدّين أنّه يحرم عليهنّ الصّدقة وأنّهنّ من أهل بيته في أصحّ الرّوايتين .
حكم أخذ آل البيت من الصّدقة المفروضة :
6 - إنّ آل محمّد صلى الله عليه وسلم المذكورين ، لا يجوز دفع الزّكاة المفروضة إليهم باتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « يا بني هاشم إنّ اللّه تعالى حرّم عليكم غسالة النّاس وأوساخهم ، وعوّضكم عنها بخمس الخمس » والّذين ذكروا ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف ، ونسبة القبيلة إليه . وخرج أبو لهب - وإن كان من الآل - فيجوز الدّفع إلى بنيه ، لأنّ النّصّ أبطل قرابته ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « لا قرابة بيني وبين أبي لهب ، فإنّه آثر علينا الأفجرين » ولأنّ حرمة الصّدقة على بني هاشم كرامة من اللّه لهم ولذرّيّتهم ، حيث نصروه صلى الله عليه وسلم في جاهليّتهم وفي إسلامهم . وأبو لهب كان حريصاً على أذى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يستحقّها بنوه . وهذا هو المذهب عند كلّ من الحنفيّة والحنابلة . وفي قول آخر في كلا المذهبين : يحرم إعطاء من أسلم من آل أبي لهب ، لأنّ مناط الحكم كونهم من بني هاشم .
7 - واختلف في بني المطّلب أخي هاشم هل تدفع الزّكاة إليهم ؟ فمذهب الحنفيّة ، والمشهور عند المالكيّة ، وإحدى روايتين عند الحنابلة ، أنّهم يأخذون من الزّكاة ، لأنّهم دخلوا في عموم قوله تعالى { إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين } لكن خرج بنو هاشم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ الصّدقة لا تنبغي لآل محمّد » ، فيجب أن يختصّ المنع بهم . ولا يصحّ قياس بني المطّلب على بني هاشم ، لأنّ بني هاشم أقرب إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأشرف ، وهم آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومشاركة بني المطّلب لهم في خمس الخمس لم يستحقّوه بمجرّد القرابة ، بدليل أنّ بني عبد شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئاً ، وإنّما شاركوهم بالنّصرة ، أو بهما جميعاً ، والنّصرة لا تقتضي منع الزّكاة . ومذهب الشّافعيّة والقول غير المشهور عند المالكيّة وإحدى الرّوايتين عن الحنابلة ، أنّه ليس لبني المطّلب الأخذ من الزّكاة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّا وبنو المطّلب لم نفترق في جاهليّة ولا إسلام . إنّما نحن وهم شيء واحد » وفي رواية : « إنّما بنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد . وشبّك بين أصابعه » ولأنّهم يستحقّون من خمس الخمس ، فلم يكن لهم الأخذ ، كبني هاشم . وقد أكّد ذلك ما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّل منعهم الصّدقة باستغنائهم عنها بخمس الخمس ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أليس في خمس الخمس ما يغنيكم ؟ » 8 - هذا وقد روى أبو عصمة عن أبي حنيفة أنّه يجوز الدّفع إلى بني هاشم في زمانه . والمشهور عند المالكيّة أنّ محلّ عدم إعطاء بني هاشم من الزّكاة إذا أعطوا ما يستحقّونه من بيت المال ، فإن لم يعطوا ، وأضرّ بهم الفقر أعطوا منها . وإعطاؤهم حينئذ أفضل من إعطاء غيرهم . وقيّده الباجيّ بما إذا وصلوا إلى حالة يباح لهم فيها أكل الميتة ، لا مجرّد ضرر . والظّاهر خلافه وأنّهم يعطون عند الاحتياج ولو لم يصلوا إلى حالة إباحة أكل الميتة ، إذ إعطاؤهم أفضل من خدمتهم لذمّيّ أو ظالم . وقال الشّافعيّة : إنّه لا يحلّ لآل محمّد صلى الله عليه وسلم الزّكاة ، وإن حبس عنهم الخمس ، إذ ليس منعهم منه يحلّ لهم ما حرم عليهم من الصّدقة ، خلافاً لأبي سعيد الإصطخريّ الّذي قال : إن منعوا حقّهم من الخمس جاز الدّفع إليهم ، لأنّهم إنّما حرموا الزّكاة لحقّهم في الخمس ، فإذا منعوا منه وجب أن يدفع إليهم . والظّاهر من إطلاق المنع عند الحنابلة أنّه تحرم على الآل الصّدقة وإن منعوا حقّهم في الخمس .
أخذ الآل من الكفّارات والنّذور وجزاء الصّيد وعشر الأرض وغلّة الوقف
9 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يحلّ لآل محمّد صلى الله عليه وسلم الأخذ من كفّارة اليمين والظّهار والقتل وجزاء الصّيد وعشر الأرض وغلّة الوقف . وهو رواية عند الحنابلة في الكفّارات ، لأنّها أشبهت الزّكاة . وعن أبي يوسف من الحنفيّة أنّه يجوز لهم أخذ غلّة الوقف إذا كان الوقف عليهم ، لأنّ الوقف عليهم حينئذ بمنزلة الوقف على الأغنياء . فإن كان على الفقراء ، ولم يسمّ بني هاشم ، لا يجوز . وصرّح في " الكافي " بدفع صدقة الوقف إليهم على أنّه بيان المذهب من غير نقل خلاف ، فقال : وأمّا التّطوّع والوقف ، فيجوز الصّرف إليهم ، لأنّ المؤدّى في الواجب يطهّر نفسه بإسقاط الفرض ، فيتدنّس المال المؤدّى ، كالماء المستعمل ، وفي النّفل يتبرّع بما ليس عليه ، فلا يتدنّس به المؤدّى . ا هـ . قال صاحب فتح القدير : والحقّ الّذي يقتضيه النّظر إجراء صدقة الوقف مجرى النّافلة ، فإن ثبت في النّافلة جواز الدّفع ، يجب دفع الوقف ، وإلاّ فلا ، إذ لا شكّ في أنّ الواقف متبرّع بتصدّقه بالوقف ، إذ لا إيقاف واجب . وذهب الحنابلة إلى جواز أخذ الآل من الوصايا لأنّها تطوّع ، وكذا النّذور ، لأنّها في الأصل تطوّع ، فأشبه ما لو وصّى لهم . وعلى ذلك يجوز لهم الأخذ منهما . وفي الكفّارة عندهم وجه آخر بالجواز ، لأنّها ليست بزكاة ولا هي أوساخ النّاس ، فأشبهت صدقة التّطوّع .
حكم أخذ الآل من صدقة التّطوّع :
10 - للفقهاء في هذه المسألة ثلاثة اتّجاهات : الأوّل : الجواز مطلقاً ، وهو قول عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ورواية عن أحمد ، لأنّها ليست من أوساخ النّاس ، تشبيهاً لها بالوضوء على الوضوء . الثّاني : المنع مطلقاً ، وهو قول عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ورواية عن أحمد أيضاً ، وهي الأظهر عند الحنابلة ، لأنّ النّصوص الواردة في النّهي عن أخذ آل البيت من الصّدقة عامّة ، فتشمل المفروضة والنّافلة . الثّالث : الجواز مع الكراهة ، وهو مذهب المالكيّة ، جمعاً بين الأدلّة .
المبحث الثّالث
موالي آل البيت والصّدقات
11 - قال الحنفيّة ، والحنابلة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة وقول عند المالكيّة ، إنّ موالي آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهم من أعتقهم هاشميّ أو مطّلبيّ ، حسب الخلاف السّابق ، لا يعطون من الزّكاة ، مستدلّين بما روى أبو رافع « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بني مخزوم على الصّدقة ، فقال لأبي رافع : اصحبني كيما تصيب منها . فقال : لا ، حتّى آتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأسأله ، فانطلق إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال : إنّا لا تحلّ لنا الصّدقة ، وإنّ مولى القوم منهم » ولأنّهم ممّن يرثهم بنو هاشم بالتّعصيب ، فلم يجز دفع الصّدقة إليهم كبني هاشم وهم بمنزلة القرابة ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « الولاء لحمة كلحمة النّسب » وثبت لهم حكم القرابة من الإرث والعقل والنّفقة ، فلا يمتنع تحريم الصّدقة عليهم . وإذا حرمت الصّدقة على موالي الآل ، فأرقّاؤهم ومكاتبوهم أولى بالمنع ، لأنّ تمليك الرّقيق يقع لمولاه ، بخلاف العتيق . والمعتمد عند المالكيّة جواز دفع الصّدقة لموالي آل البيت ، لأنّهم ليسوا بقرابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يمنعوا الصّدقة ، كسائر النّاس ، ولأنّهم لم يعوّضوا عنها بخمس الخمس ، فإنّهم لا يعطون منه ، فلم يجز أن يحرموها ، كسائر النّاس .
دفع الهاشميّ زكاته لهاشميّ
12 - يرى أبو يوسف من الحنفيّة ، وهو رواية عن الإمام ، أنّه يجوز للهاشميّ أن يدفع زكاته إلى هاشميّ مثله ، قائلين : إنّ قوله عليه الصلاة والسلام : « يا بني هاشم ، إنّ اللّه كره لكم غسالة أيدي النّاس وأوساخهم ، وعوّضكم منها بخمس الخمس » لا ينفيه ، للقطع بأنّ المراد من " النّاس " غيرهم لأنّهم المخاطبون بالخطاب المذكور ، والتّعويض بخمس الخمس عن صدقات النّاس لا يستلزم كونه عوضاً عن صدقات أنفسهم . ولم نهتد إلى حكم ذلك في غير مذهب الحنفيّة .
عمالة الهاشميّ على الصّدقة بأجر منها :
13 - قال الحنفيّة في الأصحّ عندهم والمالكيّة والشّافعيّة وبعض الحنابلة ، وهو ظاهر قول الخرقيّ ، إنّه لا يحلّ للهاشميّ أن يكون عاملاً على الصّدقات بأجر منها ، تنزيهاً لقرابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شبهة الوسخ ، ولما روى عبد المطّلب بن ربيعة بن الحارث « أنّه اجتمع ربيعة والعبّاس بن عبد المطّلب ، فقالا : لو بعثنا هذين الغلامين لي وللفضل بن العبّاس إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمّرهما على الصّدقة ، فأصابا منها كما يصيب النّاس . فقال عليّ : لا ترسلوهما . فانطلقنا حتّى دخلنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ عند زينب بنت جحش ، فقلنا : يا رسول اللّه ، قد بلغنا النّكاح وأنت أبرّ النّاس وأوصل النّاس ، وجئناك لتؤمّرنا على هذه الصّدقات ، فنؤدّي إليك كما يؤدّي النّاس ، ونصيب كما يصيبون . قال : فسكت طويلاً ، ثمّ قال : إنّ الصّدقة لا تنبغي لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ النّاس » . وفي قول للحنفيّة : إنّ أخذ الهاشميّ العامل على الصّدقات مكروه تحريماً لا حرام . وجوّز الشّافعيّة أن يكون الحمّال والكيّال والوزّان والحافظ هاشميّاً أو مطّلبيّاً . وأكثر الحنابلة على أنّه يباح للآل الأخذ من الزّكاة عمالةً ، لأنّ ما يأخذونه أجر ، فجاز لهم أخذه ، كالحمّال وصاحب المخزن إذا آجرهم مخزنه .
المبحث الرّابع
الغنيمة والفيء وحقّ آل البيت تعريف الغنيمة والفيء
اختلف الفقهاء في تعريف الغنيمة والفيء على أقوال تفصيلها في مصطلح : « أنفال » « وغنيمة » « وفيء » .
حقّ آل البيت في الغنيمة والفيء
14 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في أنّ الغنيمة تقسّم خمسة أخماس : أربعة منها للغانمين ، والخامس لمن ذكروا في قوله تعالى : { واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأنّ للّه خمسه } الآية . لكنّهم اختلفوا في مصرف الخمس بعد وفاة الرّسول عليه الصلاة والسلام ، فقال الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، إنّ خمس الغنيمة الخامس يقسّم خمسة أسهم . الأوّل : سهم لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم للآية ، ولا يسقط بوفاته ، بل يصرف بعده لمصالح المسلمين وعمارة الثّغور والمساجد . والثّاني : سهم لذوي القربى ، وهم بنو هاشم وبنو المطّلب ، دون بني عبد شمس وبني نوفل ، لاقتصاره صلى الله عليه وسلم على بني الأوّلين مع سؤال بني الآخرين ، ولأنّهم لم يفارقوه لا في جاهليّة ولا إسلام . ويشترك فيه الغنيّ والفقير ، والرّجال والنّساء . ويفضّل الذّكر على الأنثى ، كالإرث . وحكى الإمام الشّافعيّ فيه إجماع الصّحابة . والأسهم الثّلاثة الباقية لليتامى والمساكين وابن السّبيل . والرّواية الأخرى عن الإمام أحمد أنّ سهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يختصّ بأهل الدّيوان ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استحقّه بحصول النّصرة ، فيكون لمن يقوم مقامه في النّصرة . وعنه أنّه يصرف في السّلاح والكراع . والفيء عند الشّافعيّة ، وفي رواية عن الإمام أحمد ، يخمّس ، ومصرف الخمس منه كمصرف خمس الغنيمة . والظّاهر عند الحنابلة أنّه لا يخمّس ، ويكون لجميع المسلمين ، يصرف في مصالحهم . وقال الحنفيّة : إنّ الخمس الّذي للّه ولرسوله إلخ يقسّم على ثلاثة أسهم : سهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السّبيل . ويدخل فقراء ذوي القربى فيهم ، يعطون كفايتهم ، ولا يدفع إلى أغنيائهم شيء . وذوو القربى الّذين يدفع إلى فقرائهم هم بنو هاشم وبنو المطّلب والفيء لا يخمّس عندهم . وقال المالكيّة : إنّ خمس الغنيمة كلّها والرّكاز والفيء والجزية وخراج الأرض المفتوحة عنوةً أو صلحاً وعشور أهل الذّمّة محلّه بيت مال المسلمين ، يصرفه الإمام في مصارفه ، باجتهاده ، فيبدأ من ذلك بآل النّبيّ عليه الصلاة والسلام استحباباً ، ثمّ يصرف للمصالح العائد نفعها على المسلمين ، كبناء المساجد . والفيء لا يخمّس عندهم . والآل الّذين يبدأ بهم هم بنو هاشم فقط . .
المبحث الخامس
الصّلاة على آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم
15 - الفقهاء في المذاهب الأربعة مجمعون على أنّه لا يصلّى على غير الأنبياء والملائكة إلاّ تبعاً ، لكنّهم اختلفوا في حكم الصّلاة على الآل تبعاً . فأحد رأيين عند الشّافعيّة والحنابلة أنّ الصّلاة على الآل في الصّلاة واجبة ، تبعاً للصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مستدلّين بما روي من حديث كعب بن عجرة قال : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج علينا . فقلنا : يا رسول اللّه ، قد علمنا كيف نسلّم عليك ، فكيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم » . فقد أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بالصّلاة عليه وعلى آله ، والأمر يقتضي الوجوب . والرّواية الأخرى في المذهبين أنّها سنّة ، وهو قول الحنفيّة ، وأحد قولين للمالكيّة ، واستدلّوا بحديث ابن مسعود « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّمه التّشهّد ثمّ قال إذا قلت هذا ، أو قضيت هذا ، فقد تمّت صلاتك » وفي لفظ « فقد قضيت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم » والرّأي الآخر عند المالكيّة أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآل تبعاً ، فضيلة .
آل البيت والإمامة الكبرى والصّغرى :
16 - لم يشترط جمهور الفقهاء أن يكون إمام المسلمين ( الخليفة ) من آل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ويستدلّون على ذلك بأنّ الخلفاء أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا من أهل البيت ، بل كانوا من قريش . ومقتضى مراعاة شرف النّسب أنّه في الإمامة الصّغرى إن استووا هم وغيرهم في الصّفات قدّموا باعتبارهم أشرف نسباً .
( حكم سبّ آل البيت ) :
17 - أجمع فقهاء المذاهب على أنّ من شتم أحداً من آله صلى الله عليه وسلم مثل مشاتمة النّاس فإنّه يضرب ضرباً شديداً وينكّل به ، ولا يصير كافراً بالشّتم .
( الانتساب إلى آل البيت كذباً ) :
18 - من انتسب كاذباً إلى آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يضرب ضرباً وجيعاً ، ويحبس طويلاً حتّى تظهر توبته ، لأنّه استخفاف بحقّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
آلة
التّعريف
1 - الآلة ما اعتملت به من أداة ، يكون واحداً وجمعاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
أوّلاً : الحكم التّكليفيّ لاستعمال الآلات
2 - الأصل في الآلات والأدوات الّتي يستعملها الإنسان في قضاء مآربه أنّ استعمالها مباح . ويعرض لها الحظر أو الكراهية باعتبارات ، منها : أ - المادّة المصنوعة منها الآلة : فإن كانت من ذهب أو فضّة أو مطليّةً بأحدهما كره أو حرّم استعمالها ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الشّرب في آنية الذّهب والفضّة والأكل في صحافهما . وتفصيل ذلك في مباحث الآنية .
ب - الغرض الّذي تستعمل له كبيع السّلاح في الفتنة ، أو للكفّار ، أو ممّن يستعمله في الحرام ، وكبيع آلات اللّهو .
ج - ما تختصّ به الآلة من أثر قد يكون شديد الإيلام أو شديد الخطورة ، أو يؤدّي إلى محرّم ، فيمنع استعمالها ، أو يكره ، كالسّمّ في الصّيد أو الجهاد ، وكالآلة الكالّة لا تستعمل في استيفاء القصاص أو القطع في حدّ السّرقة ، وكالمزفّت والجرار يمنع بعض الفقهاء استعمالها في الانتباذ لئلاّ يسارع إليها التّخمّر .
د - التّكريم : كمنع بيع آلة العلم الشّرعيّ للكافر . ويفصّل الفقهاء أحكام كلّ آلة بحسب ما تضاف إليه في الاستعمال الفقهيّ ، فآلة الذّبح في مباحث الذّبح ، وآلة القصاص في مباحث الجنايات . وتفصيل بعض ذلك فيما يلي : ( آلات اللّهو واللّعب ) :
3 - آلات اللّهو كالطّبل والمزمار والعود ، وآلات بعض الألعاب كالشّطرنج والنّرد ، محرّمة الاستعمال عند الفقهاء من حيث الجملة . ويباح الطّبل لغير اللّهو كالعرس وطبل الغزاة . وفي هذه الأحكام خلاف وتفاصيل يذكرها الفقهاء في مباحث البيع والإجارة والشّهادة والحدود والحظر والإباحة . آلة الذّبح وآلة الصّيد :
4 - اعتبر الشّرع في آلة الذّبح وآلة الصّيد أن تكون محدّدةً . تنهر الدّم وتفري ، وألاّ تكون سنّاً ولا ظفراً ، فلا يحلّ ما ذبح بهما أو صيد بهما . وفرّق بعض الفقهاء بين السّنّ والظّفر القائمين ، فمنع الذّبح بهما ، بخلاف المنزوعين . ولا يحلّ ما أزهقت نفسه بمثقل كالحجر ونحوه . وينبغي تعاهد الآلة لتكون محدّدةً فتريح الذّبيحة . وإن كان المصيد به حيواناً كالكلب والصّقر ونحوهما اعتبر أن يكون معلّماً . ومعنى التّعليم في الجارحة أن تصير بحيث إذا أرسلت أطاعت ، وإذا زجرت انزجرت ، وقيل بأن تترك الأكل من الصّيد ثلاث مرّات . ويذكر الفقهاء تفصيل ذلك والخلاف فيه في مباحث الصّيد ، ومباحث الذّبح .
( آلات الجهاد ) :
5 - يجب إعداد العدّة للجهاد ، وتجوز مقاتلة العدوّ بالسّلاح المناسب لكلّ عصر ، وفي تحريقهم بالنّار وتغريقهم واستعمال السّموم تفصيل وخلاف يذكره الفقهاء في مباحث الجهاد . ويجوز إتلاف آلات العدوّ في حال القتال ، على تفصيل للفقهاء في مباحث الجهاد . آلات استيفاء القصاص والقطع في السّرقة :
6 - يستوفى القصاص في النّفس عند جمهور العلماء بالصّفة الّتي وقعت بها الجناية . وعند بعض العلماء لا يستوفى القصاص إلاّ بالسّيف . ولا يستوفى القصاص فيما دون النّفس بآلة يخشى منها الزّيادة . وكذلك القطع في السّرقة . ويرجع لمعرفة تفاصيل ذلك إلى مباحث القصاص وحدّ السّرقة . آلات الجلد في الحدود والتّعازير :
7 - الجلد في الحدود يكون بالسّوط . على أنّه يجوز في حدّ الشّرب الضّرب بالأيدي أو النّعال أو أطراف الثّياب . ويستعمل السّوط في إقامة حدّ الزّنا على البكر . وحدّ القذف ، وحدّ شرب الخمر . ويجزي منه استعمال عثكال فيه مائة شمراخ في إقامة حدّ الزّنا على البكر ، إن كان لا يحتمل الجلد لمرض لا يرجى برؤه . ويلاحظ ألاّ يكون السّوط ممّا يتلف ، ولذلك قال بعضهم : لا يكون له ثمرة - يعني : عقدة في طرفه - وقال بعضهم يكون بين الجديد والخلق . أمّا الجلد في التّعزير فقد يكون بالسّوط ، أو بما يقوم مقامه ممّا يراه وليّ الأمر . وفي كثير ممّا ذكرناه هنا تفصيل وخلاف يذكره الفقهاء في مسائل الحدود والتّعزير . ثانياً : آلات العمل وزكاتها :
8 - لا زكاة في آلات العمل للمحترفين ، سواء كان ممّا لا تستهلك عينه كالمنشار والقدوم ، أو ممّا تستهلك ، إلاّ أنّ الآلات الّتي تشترى فتستعمل فيما يباع ، كقوارير العطّارين ، إن كان من غرض المشتري بيعها بها ففيها الزّكاة عند الحول . وآلات العمل للمحترفين ، الّتي هم بحاجة إليها ، لا تباع عليهم في حال الإفلاس . ومن كان منهم فقيراً لا يملك آلات عمله ، ولا ما يشتريها به ، يجوز إعطاؤه من الزّكاة ما يشتريها به ، على تفصيل للفقهاء في مباحث الزّكاة والإفلاس . ثالثاً : آلة العدوان وأثرها في تحديد نوع الجناية :
9 - جناية القتل لا يجب بها القصاص إلاّ إن كانت متعمّدةً ، ولمّا كان تعمّد القتل أمراً خفيّاً ينظر إلى الآلة ، فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا قصاص في قتل العمد إلاّ إذا كان بمحدّد ، وأمّا ما كان بغيره فليس بعمد ، بل هو شبه عمد إذا تعمّد الضّرب به ولا قصاص فيه . وجمهور العلماء لم يوافقوا أبا حنيفة على ذلك ، بل يثبت العمد عندهم في القتل بما عدا المحدّد ، على تفصيل وخلاف بينهم في الضّوابط المعتبرة في ذلك ، يذكر في مسائل الجنايات والقصاص .
آمّة
التّعريف
1 - الآمّة لغةً : شجّة تبلغ أمّ الرّأس ، وهي جلدة تجمع الدّماغ . وشجّة آمّة ومأمومة بمعنًى واحد . واستعمل الفقهاء اللّفظين بنفس المعنى اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة )
2 - هناك ألفاظ وردت في شجّ الرّأس ، كالموضحة والهاشمة والمنقّلة والدّامغة إلاّ أنّ لكلّ منها حكمها الخاصّ . وتفصيل ذلك عند الفقهاء في القصاص والدّيات .
( الحكم الإجماليّ )
3 - أجمع الفقهاء على أنّ في الآمّة ثلث الدّية .
( مواطن البحث )
4 - يفصّل الفقهاء أحكام الآمّة في مباحث الجناية على ما دون النّفس ، وفي مباحث الدّيات . كما فصّلوا في مباحث الصّوم ، مسألة الفطر بوصول شيء إلى الآمّة .
آمين معناه ، واللّغات الّتي وردت فيه :
1 - جمهور أهل اللّغة على أنّ آمين في الدّعاء يمدّ ويقصر ، وتقول أمّنت على الدّعاء تأميناً ، إذا قلت آمين . ويعبّر غالباً بالتّأمين بدلاً من عبارة قول آمين ، لسهولة اللّفظ . ولم يعتبر التّأمين عنواناً للبحث ، لئلاّ يشتبه بالتّأمين التّجاريّ . ونقل الفقهاء فيه لغات عديدةً ، نكتفي منها بأربع : المدّ ، والقصر ، والمدّ مع الإمالة والتّخفيف ، والمدّ مع التّشديد . والأخيرتان حكاهما الواحديّ ، وزيّف الأخيرة منهما . وقال النّوويّ : إنّها منكرة . وحكى ابن الأنباريّ القصر مع التّشديد . وهي شاذّة أيضاً . وكلّها إلاّ الرّابعة اسم فعل بمعنى استجب . ومعنى آمّين ( بالمدّ مع التّشديد ) قاصدين إليك . قال ابن عبّاس : « سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين ، فقال : افعل » . وقال قتادة : كذلك يكون . وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « آمين خاتم ربّ العالمين على عباده المؤمنين » . وقال عطاء : آمين دعاء . وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على آمين وتسليم بعضكم على بعض » . قال ابن العربيّ : هذه الكلمة لم تكن لمن قبلنا ، خصّنا اللّه تعالى بها . حقيقة التّأمين :
2 - التّأمين دعاء ، لأنّ المؤمن يطلب من اللّه أن يستجيب الدّعاء . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - الأصل في قول آمين أنّه سنّة ، لكنّه قد يخرج عن النّدب إلى غيره ، كالتّأمين على دعاء محرّم ، فإنّه يكون حراماً . نفي القرآنيّة عن " آمين » :
4 - لا خلاف في أنّ " آمين " ليست من القرآن ، لكنّها مأثورة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد واظب عليها ، وأمر بها في الصّلاة وخارجها ، كما يعرف من الأحاديث الّتي سترد في خلال البحث . مواطن التّأمين :
5 - التّأمين دعاء غير مستقلّ بنفسه بل مرتبط بغيره من الأدعية ، لذلك يحسن بيان المواضع الّتي يؤمّن على الدّعاء فيها ، فمن أهمّها : أ - التّأمين في الصّلاة : التّأمين عقب قراءة الفاتحة ، وعلى الدّعاء في قنوت الصّبح ، والوتر ، والنّازلة .
ب - والتّأمين خارج الصّلاة : عقب قراءة الفاتحة ، والتّأمين على الدّعاء في الخطبة ، وفي الاستسقاء . أوّلاً : التّأمين في الصّلاة التّأمين عقب الفاتحة :
5 م - التّأمين للمنفرد سنّة ، سواء أكانت الصّلاة سرّيّةً أم جهريّةً . ومثله الإمام والمأموم في السّرّيّة ، والمقتدي في صلاة الجهر . أمّا الإمام في الصّلاة الجهريّة فللعلماء فيه ثلاثة آراء : أوّلاً - ندب التّأمين ، وهو قول الشّافعيّة ، والحنابلة ، والحنفيّة ، عدا رواية الحسن عن أبي حنيفة وهو رواية المدنيّين من المالكيّة الحديث : « إذا أمّن الإمام فأمّنوا ، فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه » . ثانياً - عدم النّدب ، وهو رواية المصريّين من المالكيّة ، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة . ودليل عدم استحسانه من الإمام ما روى مالك عن سميّ عن أبي صالح عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين فقولوا آمين فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر له » . وهذا دليل على أنّه لا يقوله ، لأنّه صلى الله عليه وسلم قسم ذلك بينه وبين القوم ، والقسمة تنافي الشّركة . ثالثاً - وجوب التّأمين ، وهو رواية عن أحمد ، قال في رواية إسحاق بن إبراهيم : آمين أمر من النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ارتباط التّأمين بالسّماع :
6 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّه يسنّ التّأمين عند سماع قراءة الإمام ، أمّا إن سمع المأموم التّأمين من مقتد آخر فللفقهاء في ذلك رأيان : الأوّل : ندب التّأمين وإليه ذهب الحنفيّة وهو قول للمالكيّة وقول مضعّف للشّافعيّة . الثّاني : لا يطلب التّأمين ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة والقول الآخر للمالكيّة ولم نقف على نصّ للحنابلة في هذا .
( تحرّي الاستماع ) :
7 - لا يتحرّى المقتدي على الأظهر الاستماع للإمام عند المالكيّة ، ومقابله يتحرّى ، وهو قول الشّافعيّة .
الإسرار بالتّأمين والجهر به :
8 - لا خلاف بين المذاهب الأربعة في أنّ الصّلاة إن كانت سرّيّةً فالإسرار بالتّأمين سنّة في حقّ الإمام والمأموم والمنفرد . وأمّا إن كانت جهريّةً فقد اختلفوا في الإسرار به وعدمه على ثلاثة مذاهب : الأوّل . ندب الإسرار ، وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة استحبّوه بالنّسبة للمأموم والمنفرد فقط ، والحنفيّة ومعهم ابن الحاجب وابن عرفة من المالكيّة استحبّوه للجميع ، لأنّه دعاء والأصل فيه الإخفاء . لقوله سبحانه : { ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً } ولقول ابن مسعود رضي الله عنه : أربع يخفيهنّ الإمام ، وذكر منها آمين . ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة تخصيص الإسرار بالمأموم فقط إن أمّن الإمام ، كسائر الأذكار ، وقيل يسرّ في هذه الحالة إن قلّ الجمع . الثّاني : ندب الجهر . وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنابلة عمّوا النّدب في كلّ مصلّ . ووافقهم الشّافعيّة اتّفاقاً بالنّسبة للإمام والمنفرد . وأمّا في المأموم فقد وافقوهم أيضاً بشرط عدم تأمين الإمام . فإن أمّن فالأظهر ندب الجهر كذلك . وقيل إنّما يجهر في حالة تأمين الإمام بشرط كثرة الجمع . فإن لم يكثر فلا يندب الجهر . واستدلّ القائلون بندب الجهر بأنّه صلى الله عليه وسلم قال " آمين " ورفع بها صوته . الثّالث : التّخيير بين الجهر والإسرار ، وبه قال ابن بكير وابن العربيّ من المالكيّة ، غير أنّ ابن بكير خصّه بالإمام فقط ، وخيّر ابن العربيّ الجميع ، وصحّح في كتابه " أحكام القرآن " الجهر . ولو أسرّ به الإمام جهر به المأموم عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ جهر المأموم بالتّأمين سنّة ، فلا يسقط بترك الإمام له ، ولأنّه ربّما نسيه الإمام ، فيجهر به المأموم ليذكّره .
( المقارنة والتّبعيّة في التّأمين ) :
9 - مذهب الشّافعيّة ، والأصحّ عند الحنابلة أنّ مقارنة تأمين الإمام لتأمين المأموم سنّة ، لخبر « إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه » وخبر « إذا قال أحدكم : آمين ، وقالت الملائكة في السّماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر له ما تقدّم من ذنبه » رواه الشّيخان . ومقابل الأصحّ عند الحنابلة أنّ المقتدي يؤمّن بعد تأمين الإمام . ولم أقف على نصّ صريح في ذلك للحنفيّة والمالكيّة ، لكنّهم ذكروا ما يفيد مقارنة التّأمين لتأمين الملائكة ، مستدلّين بحديث أبي هريرة السّابق « إذا قال أحدكم : آمين ، وقالت الملائكة في السّماء : آمين . . . » إلخ . وبحديث أبي هريرة أيضاً « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين فقولوا : آمين ، فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه » . فإن فاتته مقارنة تأمينه لتأمين إمامه أتى به عقبه ، فإن لم يعلم المأموم بتأمين إمامه ، أو أخّره عن وقته المندوب أمّن . نصّ على ذلك الشّافعيّة ، كما نصّوا على أنّه لو قرأ معه وفرغا معاً كفى تأمين واحد ، أو فرغ قبله ، قال البغويّ : ينتظره ، والمختار أو الصّواب أنّه يؤمّن لنفسه ، ثمّ يؤمّن للمتابعة .
الفصل بين « آمين » وبين { ولا الضّالّين }
10 - الشّافعيّة والحنابلة على ندب السّكوت لحظةً لطيفةً بين { ولا الضّالّين } وبين « آمين » ليعلم أنّها ليست من القرآن ، وعلى ألاّ يتخلّل في هذه اللّحظة لفظ . نعم ، يستثني الشّافعيّة " ربّ اغفر لي " قالوا : وينبغي أنّه لو زاد على ذلك « ولوالديّ ولجميع المسلمين » لم يضرّ أيضاً . ولم أر من الحنفيّة والمالكيّة من تعرّض لهذه النّقطة ، فيما وقفت عليه . تكرار آمين والزّيادة بعدها :
11 - يحسن عند الشّافعيّة قول : « آمين ربّ العالمين » ، وغير ذلك من الذّكر . ولا يستحبّ عند أحمد ، لكن لا تبطل صلاته ، ولا يسجد للسّهو عنها . ولم نجد لغير الشّافعيّة والحنابلة نصّاً في التّكرار . وذكر الكرديّ عن ابن حجر أنّه يندب تكرار " آمين " في الصّلاة ، مستدلّاً بما رواه وائل بن حجر أنّه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل الصّلاة ، فلمّا فرغ من فاتحة الكتاب ، قال : آمين ، ثلاثاً » ويؤخذ منه تكرار " آمين " ثلاثاً ، حتّى في الصّلاة .
( ترك التّأمين )
12 - المذاهب الأربعة على أنّ المصلّي لو ترك " آمين " واشتغل بغيرها لا تفسد صلاته ، ولا سهو عليه ، لأنّه سنّة فات محلّها . عدم انقطاع القراءة بالتّأمين على قراءة الإمام :
13 - إذا فرغ الإمام من قراءة الفاتحة أثناء قراءة المأموم ، قال المأموم " آمين " ثمّ يتمّ قراءته ، نصّ على ذلك الشّافعيّة والحنابلة . ولا قراءة عند الحنفيّة والمالكيّة بالنّسبة للمأموم .
التّأمين عقب الفاتحة خارج الصّلاة
14 - التّأمين عقب قراءة الفاتحة سنّة عند المذاهب الأربعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لقّنني جبريل عليه السلام ، عند فراغي من الفاتحة : آمين » .
التّأمين على القنوت
15 - القنوت قد يكون في النّازلة وقد يكون في غيرها . وللفقهاء في التّأمين على قنوت غير النّازلة ثلاثة اتّجاهات : الأوّل : التّأمين جهراً ، إن سمع الإمام ، وإلاّ قنت لنفسه . وهو قول الشّافعيّة والصّحيح عند الحنابلة ، وهو قول محمّد بن الحسن في القنوت وفي الدّعاء بعده . ومنه الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما نصّ الشّافعيّة . وهو المتبادر لغيرهم لدخوله في الشّمول . الثّاني : ترك التّأمين . وإليه ذهب المالكيّة ، وهو الأصحّ عند الحنفيّة ، وروايةً عن أحمد ، وقول ضعيف عند الشّافعيّة . الثّالث : التّخيير بين التّأمين وتركه . وهو قول أبي يوسف ، وقول ضعيف للشّافعيّة . ولا فرق بين قنوت النّازلة وقنوت غيرها ، عند الشّافعيّة والحنابلة . ولا تأمين في النّازلة عند الحنفيّة لإسرارهم بالقنوت فيها . فإن جهر الإمام أمّن المأموم . قال ابن عابدين : والّذي يظهر لي أنّ المقتدي يتابع إمامه إلاّ إذا جهر فيؤمّن . ولا قنوت في النّازلة عند المالكيّة على المشهور . ولو اقتدى المأموم بمن يقنت في صلاة الصّبح أجاز له الحنابلة التّأمين . ومعهم في ذلك ابن فرحون من المالكيّة . ويسكت من صلّى وراء من يقنت في الفجر عند الحنفيّة . ويراعي المأموم المقتدي بمن لا يقنت حال نفسه عند الشّافعيّة بشرط عدم الإخلال بالمتابعة .
ثانياً : التّأمين خارج الصّلاة
( التّأمين على دعاء الخطيب )
16 - يسنّ التّأمين على دعاء الخطيب عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّه يكون عند المالكيّة والحنابلة سرّاً ، وبلا رفع صوت عند الشّافعيّة . ولا تأمين باللّسان جهراً عند الحنفيّة بل يؤمّن في نفسه . ونصّ المالكيّة على تحريم ما يقع على دكّة المبلّغين بعد قول الإمام : « ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة » من رفع أصوات جماعة بقولهم : « آمين . آمين . آمين » واعتبروه بدعةً محرّمةً . التّأمين على دعاء الاستسقاء :
17 - استحبّ الشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول للمالكيّة ، التّأمين على دعاء الاستسقاء عند جهر الإمام به . ولا يخالف الحنفيّة في ذلك . والقول الآخر للمالكيّة أن يدعو الإمام والمأمومون . وقيل بعد دعائهم معاً يستقبلهم الإمام ، فيدعو ويؤمّنون . التّأمين على الدّعاء دبر الصّلاة .
18 - لم أجد من يقول بالتّأمين على دعاء الإمام بعد الصّلاة إلاّ بعض المالكيّة . وممّن قال بجوازه ابن عرفة ، وأنكر الخلاف في كراهيته . وفي جواب الفقيه العلاّمة أبي مهديّ الغبرينيّ ما نصّه " ونقرّر أوّلاً أنّه لم يرد في الملّة نهي عن الدّعاء دبر الصّلاة ، على ما جرت به العادة اليوم من الاجتماع ، بل جاء التّرغيب فيه على الجملة » . فذكر أدلّةً كثيرةً ثمّ قال " فتحصل بعد ذلك كلّه من المجموع أنّ عمل الأئمّة منذ الأزمنة المتقادمة مستمرّ في مساجد الجماعات ، وهو مساجد الجوامع ، وفي مساجد القبائل ، وهي مساجد الأرباض والرّوابط ، على الجهر بالدّعاء بعد الفراغ من الصّلوات ، على الهيئة المتعارفة الآن ، من تشريك الحاضرين ، وتأمين السّامعين ، وبسط الأيدي ، ومدّها عند السّؤال ، والتّضرّع والابتهال من غير منازع » . وكرهه مالك وجماعة غيره من المالكيّة ، لما يقع في نفس الإمام من التّعاظم . وبقيّة القائلين بالدّعاء عقب الصّلاة يسرّون به ندباً ، على تفصيل . ( ر : دعاء ) .
آنية أوّلاً
التّعريف
1 - الآنية جمع إناء ، والإناء الوعاء ، وهو كلّ ظرف يمكن أن يستوعب غيره . وجمع الآنية أوان . ويقاربه الظّرف ، والماعون . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن الاستعمال اللّغويّ . ثانياً : أحكام الآنية من حيث استعمالها :
أ - بالنّظر إلى ذاتها ( مادّتها ) :
2 - الآنية بالنّظر إلى ذاتها أنواع : آنية الذّهب . والفضّة - الآنية المفضّضة - الآنية المموّهة - الآنية النّفيسة لمادّتها أو صنعتها - آنية الجلد - آنية العظم - آنية من غير ما سبق .
( النّوع الأوّل : آنية الذّهب والفضّة ) :
3 - هذا النّوع محظور لذاته ، فإنّ استعمال الذّهب والفضّة حرام في مذاهب الأئمّة الأربعة ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة ، ولا تأكلوا في صحافهما ، فإنّها لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة » . ونهى صلى الله عليه وسلم عن الشّرب في آنية الفضّة ، فقال : « من شرب فيها في الدّنيا لم يشرب فيها في الآخرة » . والنّهي يقتضي التّحريم . والعلّة في تحريم الشّرب فيها ما يتضمّنه ذلك من الفخر وكسر قلوب الفقراء . والنّهي وإن كان عن الأكل والشّرب ، فإنّ العلّة موجودة في الطّهارة منها واستعمالها كيفما كان . وإذا حرم الاستعمال في غير العبادة ففيها أولى ، وفي المذهب القديم للشّافعيّ أنّه مكروه تنزيهاً . فإن توضّأ منها ، أو اغتسل ، صحّت طهارته عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأكثر الحنابلة ، لأنّ فعل الطّهارة وماءها لا يتعلّق بشيء من ذلك ، كالطّهارة في الأرض المغصوبة . وذهب بعض الحنابلة إلى عدم صحّة الطّهارة ، لأنّه استعمل المحرّم في العبادة ، فلم يصحّ كالصّلاة في الدّار المغصوبة . والتّحريم عامّ للرّجال والنّساء .
النّوع الثّاني : الآنية المفضّضة والمضبّبة بالفضّة :
4 - فقهاء المذاهب يختلفون في حكم استعمال الآنية المفضّضة والمضبّبة بالفضّة : فعند الإمام أبي حنيفة ، وهو رواية عن الإمام محمّد ، ورواية عن الشّافعيّ ، وقول بعض الحنابلة ، أنّه يجوز استعمال الآنية المفضّضة والمضبّبة إذا كان المستعمل يتّقي موضع الفضّة . وعند أكثر الحنابلة أنّه يجوز الاستعمال إذا كانت الفضّة قليلةً . وعند المالكيّة في المفضّضة روايتان : إحداهما المنع ، والأخرى الجواز ، واستظهر بعضهم الجواز . وأمّا الآنية المضبّبة فلا يجوز عندهم شدّها بالذّهب أو الفضّة . والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز استعمال المضبّب بالذّهب ، كثرت الضّبّة أو قلّت ، لحاجة أو غيرها . وذهب بعضهم إلى أنّ المضبّب بالذّهب كالمضبّب بالفضّة ، فإن كانت كبيرةً ، ولغير زينة ، جازت ، وإن كانت للزّينة حرمت وإن كانت قليلةً . والمرجع في الكبر والصّغر العرف . وعند الحنابلة أنّ المضبّب بالذّهب والفضّة إن كان كثيراً فهو محرّم بكلّ حال ، ذهباً كان أو فضّةً ، لحاجة ولغيرها . وقال أبو بكر يباح اليسير من الذّهب والفضّة . وأكثر الحنابلة على أنّه لا يباح من الذّهب إلاّ ما دعت إليه الضّرورة . وأمّا الفضّة فيباح منها اليسير . قال القاضي ويباح ذلك مع الحاجة وعدمها . وقال أبو الخطّاب لا يباح اليسير إلاّ لحاجة . وتكره عندهم مباشرة موضع الفضّة بالاستعمال ، كي لا يكون مستعملاً لها . وذهب أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه يكره استعمال الإناء المضبّب والمفضّض ، وهي الرّواية الأخرى عن محمّد . وحجّة الإمام أبي حنيفة ومن وافقه أنّ كلّاً من الذّهب والفضّة تابع ، ولا معتبر بالتّوابع ، كالجبّة المكفوفة بالحرير ، والعلم في الثّوب ، ومسمار الذّهب في الفصّ . وحجّة من جوّز قليل الفضّة للحاجة « أنّ قدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم انكسر ، فاتّخذ مكان الشّعب سلسلةً من فضّة » ، وأنّ الحاجة تدعو إليه ، وليس فيه سرف ولا خيلاء ، فأشبه الضّبّة من الصّفر ( النّحّاس ) . وممّن رخّص في ضبّة الفضّة من السّلف عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور وابن المنذر وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم . النّوع الثّالث : الآنية المموّهة والمغشّاة بالذّهب أو الفضّة :
5 - مذهب الحنفيّة ، وهو أحد قولين عند المالكيّة ، أنّ الآنية المموّهة بالذّهب أو الفضّة جائز استعمالها ، لكنّ الحنفيّة قيّدوا ذلك بما إذا كان التّمويه لا يمكن تخليصه . قال الكاسانيّ : « وأمّا الأواني المموّهة بماء الذّهب والفضّة ، الّذي لا يخلص منه شيء ، فلا بأس بالانتفاع بها ، والأكل والشّرب وغير ذلك بالإجماع » . وأمّا ما يمكن تخليصه فعلى الخلاف السّابق بين الإمام وصاحبيه في مسألة المفضّض والمضبّب . وعند الشّافعيّة يجوز الاستعمال إذا كان التّمويه يسيراً . وعند الحنابلة أنّ المموّه والمطليّ والمطعّم والمكفّت كالذّهب والفضّة الخالصين . أمّا آنية الذّهب والفضّة إذا غشيت بغير الذّهب والفضّة ففيها عند المالكيّة قولان . وأجازها الشّافعيّة إذا كان ساتراً للذّهب والفضّة ، لفقدان علّة الخيلاء . النّوع الرّابع : الآنية النّفيسة من غير الذّهب والفضّة :
6 - الآنية النّفيسة من غير الذّهب والفضّة نفاستها إمّا لذاتها ( أي مادّتها ) ، وإمّا لصنعتها : أ - النّفيسة لذاتها :
7 - المنصوص عليه عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأصحّ في مذهب المالكيّة والشّافعيّة ، أنّه يجوز استعمال الأواني النّفيسة ، كالعقيق والياقوت والزّبرجد ، إذ لا يلزم من نفاسة هذه الأشياء وأمثالها حرمة استعمالها ، لأنّ الأصل الحلّ فيبقى عليه . ولا يصحّ قياسها على الذّهب والفضّة لأنّ تعلّق التّحريم بالأثمان ( الذّهب والفضّة ) ، الّتي هي واقعة في مظنّة الكثرة فلم يتجاوزه . وقال بعض المالكيّة : إنّه لا يجوز استعمال الأواني النّفيسة ، لكنّ ذلك ضعيف جدّاً . وهو قول عند الشّافعيّة .
ب - الآنية النّفيسة لصنعتها :
8 - النّفيس بسبب الصّنعة ، كالزّجاج المخروط وغيره لا يحرم بلا خلاف . وذلك ما قاله صاحب المجموع ، ولكن نقل الأذرعيّ أنّ صاحب البيان في زوائده حكى الخلاف أيضاً فيما كانت نفاسته بسبب الصّنعة ، وقال : إنّ الجواز هو الصّحيح . النّوع الخامس : الآنية المتّخذة من الجلد :
9 - قال فقهاء المذاهب الأربعة : إنّ جلد كلّ ميتة نجس قبل الدّبغ ، وأمّا بعد الدّبغ فالمشهور عند المالكيّة والحنابلة أنّه نجس أيضاً . وقالوا إنّ ما ورد من نحو قوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » محمول على الطّهارة اللّغويّة ( أي النّظافة ) لا الشّرعيّة . ومؤدّى ذلك أنّه لا يصلّى به أو عليه . وغير المشهور في المذهبين أنّه يطهر الجلد بالدّباغة الطّهارة الشّرعيّة ، فيصلّى به وعليه . ويروى القول بالنّجاسة عن عمر وابنه عبد اللّه وعمران بن حصين وعائشة ، رضي الله عنهم . وعن الإمام أحمد رواية أخرى ، أنّه يطهر من جلود الميتة جلد ما كان طاهراً في حال الحياة . وروي نحو هذا عن عطاء والحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة ويحيى الأنصاريّ وسعيد بن جبير ، وغيرهم . وعند الشّافعيّة أنّه إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذّبح شيء من أجزائه ، ويجوز الانتفاع بجلده . وإن ذبح حيوان لا يؤكل نجس بذبحه ، كما ينجس بموته ، فلا يطهر جلده ولا شيء من أجزائه . وكلّ حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدّباغ ، عدا الكلب والخنزير ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » ولأنّ الدّباغ يحفظ الصّحّة على الجلد ، ويصلحه للانتفاع به ، كالحياة . ثمّ الحياة تدفع النّجاسة عن الجلد فكذلك الدّباغ . أمّا الكلب والخنزير وما تولّد منهما فلا يطهر جلدهما بالدّباغ . وعند الحنفيّة أنّ جلد الميتة ، عدا الخنزير والآدميّ ولو كافراً ، يطهر بالدّباغة الحقيقيّة كالقرظ وقشور الرّمّان والشّبّ ، كما يطهر بالدّباغة الحكميّة ، كالتّتريب والتّشميس والإلقاء في الهواء . فتجوز الصّلاة فيه وعليه ، والوضوء منه . وعدم طهارة جلد الخنزير بالدّباغة لنجاسة عينه ، وجلد الآدميّ لحرمته ، صوناً لكرامته ، وإن حكم بطهارته من حيث الجملة لا يجوز استعماله كسائر أجزاء الآدميّ .
النّوع السّادس : الأواني المتّخذة من العظم :
10 - الآنية المتّخذة من عظم حيوان مأكول اللّحم مذكًّى يحلّ استعمالها إجماعاً . وأمّا الآنية المتّخذة من حيوان غير مأكول اللّحم ، فإن كان مذكًّى فالحنفيّة يرون أنّها طاهرة ، لقولهم بطهارة القرن والظّفر والعظم ، مستدلّين بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان يمتشط بمشط من عاج » ، وهو عظم الفيل ، فلو لم يكن طاهراً لما امتشط به الرّسول صلى الله عليه وسلم . وهذا يدلّ على جواز اتّخاذ الآنية من عظم الفيل . وهو أحد رأيين عند الشّافعيّة ، ورأي ابن تيميّة . وحجّة أصحاب هذا الرّأي أنّ العظم والسّنّ والقرن والظّلف كالشّعر والصّوف ، لا يحسّ ولا يألم ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما حرم من الميتة أكلها » . وذلك حصر لما يحرم من الميتة فيبقى ما عداها على الحلّ . والرّأي الآخر للشّافعيّة أنّه نجس ، وهو المذهب .
11 - وأمّا إن كان العظم من حيوان غير مذكًّى ( سواء كان مأكول اللّحم أو غير مأكوله ) فالحنفيّة ومن معهم على طريقتهم في طهارته ، ما لم يكن عليه دسم ، فلا يطهر إلاّ بإزالته . وقال الشّافعيّة وأكثر المالكيّة والحنابلة : العظم هنا نجس ، ولا يطهر بحال . هذا وقد أجمع الفقهاء على حرمة استعمال عظم الخنزير ، لنجاسة عينه ، وعظم الآدميّ - ولو كافراً - لكرامته .
12 - وألحق محمّد بن الحسن الفيل بالخنزير لنجاسة عينه عنده . وألحق الشّافعيّة الكلب بالخنزير . وكره عطاء وطاوس والحسن وعمر بن عبد العزيز عظام الفيلة . ورخّص في الانتفاع بها محمّد بن سيرين وغيره وابن جرير ، لما روى أبو داود بإسناده عن ثوبان « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة قلادةً من عصب وسوارين من عاج » . واستدلّ القائلون بالنّجاسة بقوله تعالى { حرّمت عليكم الميتة } والعظم من جملتها ، فيكون محرّماً ، والفيل لا يؤكل لحمه فهو نجس ذكّي أو لم يذكّ . وقال بعض المالكيّة : إنّ استعمال عظم الفيل مكروه . وهو ضعيف . وفي قول للإمام مالك : إنّ الفيل إن ذكّي فعظمه طاهر ، وإلاّ فهو نجس . النّوع السّابع : الأواني من غير ما سبق :
13 - الأواني من غير ما تقدّم ذكره مباح استعمالها ، سواء أكانت ثمينةً كبعض أنواع الخشب والخزف ، وكالياقوت والعقيق والصّفر ، أم غير ثمينة كالأواني العادية ، إلاّ أنّ بعض الآنية لها حكم خاصّ من حيث الانتباذ فيها ، فقد نهى الرّسول عليه الصلاة والسلام أوّلاً عن الانتباذ في الدّبّاء والحنتم والنّقير والمزفّت ثمّ نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن الأشربة إلاّ في ظروف الأدم ، فاشربوا في كلّ وعاء غير ألاّ تشربوا مسكراً » . وجمهور أهل العلم على جواز استعمال هذه الآنية على أن يحذر من تخمّر ما فيها نظراً إلى أنّها بطبيعتها يسرع التّخمّر إلى ما ينبذ فيها . وفي رواية عن الإمام أحمد أنّه كره الانتباذ في الآنية المذكورة . ونقل الشّوكانيّ عن الخطّابيّ أنّ النّهي عن الانتباذ في هذه الأوعية لم ينسخ عند بعض الصّحابة والفقهاء ومنهم ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم ، ومالك وأحمد وإسحاق .
ب - آنية غير المسلمين :
14 - ( آنية أهل الكتاب ) : ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو أحد القولين عند الحنابلة إلى جواز استعمال آنية أهل الكتاب ، إلاّ إذا تيقّن عدم طهارتها . فقد نصّ الحنفيّة على أنّ " سؤر الآدميّ وما يؤكل لحمه طاهر ، لأنّ المختلط به اللّعاب ، وقد تولّد من لحم طاهر فيكون طاهراً . ويدخل في هذا الجواب الجنب والحائض والكافر » . وما دام سؤره طاهراً فاستعمال آنيته جائز من باب أولى . واستدلّوا بما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد » وكانوا مشركين ، ولو كان عين المشرك نجساً لما فعل ذلك . ولا يعارض بقوله تعالى { إنّما المشركون نجس } لأنّ المراد به النّجس في الاعتقاد ، ومن باب أولى أهل الكتاب وآنيتهم . وذلك لقوله تعالى { وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم } وروى عبد اللّه بن مغفّل ، قال : « دلّي جراب من شحم يوم خيبر ، فالتزمته وقلت : واللّه لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً . فالتفتّ فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبتسم » . وروى أنس « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أضافه يهوديّ بخبز شعير وإهالة سنخة » . وتوضّأ عمر من جرّة نصرانيّة . وصرّح القرافيّ من المالكيّة في الفروق بأنّ جميع ما يصنعه أهل الكتاب والمسلمون الّذين لا يصلّون ولا يستنجون ولا يتحرّزون من النّجاسات ، من الأطعمة وغيرها ، محمول على الطّهارة ، وإن كان الغالب عليه النّجاسة . ومذهب الشّافعيّة ، وهو رواية أخرى للحنابلة ، أنّه يكره استعمال أواني أهل الكتاب ، إلاّ أن يتيقّن طهارتها ، فلا كراهة ، وسواء المتديّن باستعمال النّجاسة وغيره . ودليلهم ما روى « أبو ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه قال قلت : يا رسول اللّه ، إنّا بأرض أهل كتاب ، أنأكل في آنيتهم ؟ فقال : لا تأكلوا في آنيتهم إلاّ إن لم تجدوا عنها بدّاً ، فاغسلوها بالماء ، ثمّ كلوا فيها » . وأقلّ أحوال النّهي الكراهة ، ولأنّهم لا يجتنبون النّجاسة ، فكره لذلك . على أنّ الشّافعيّة يرون أنّ أوانيهم المستعملة في الماء أخفّ كراهةً .
15 - آنية المشركين : يستفاد من أقوال الفقهاء الّتي تقدّم بيانها أنّ أواني غير أهل الكتاب كأواني أهل الكتاب في حكم استعمالها عند الأئمّة أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وبعض الحنابلة . وبعض الحنابلة يرون أنّ ما استعمله الكفّار من غير أهل الكتاب من الأواني لا يجوز استعمالها لأنّ أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم . وذبائحهم ميتة ، فتكون نجسةً .
ثالثاً : حكم اقتناء آنية الذّهب والفضّة :
16 - فقهاء المذاهب مختلفون في حكم اقتناء آنية الذّهب والفضّة : فمذهب الحنفيّة ، وهو قول عند المالكيّة ، والصّحيح عند الشّافعيّة ، أنّه يجوز اقتناء آنية الذّهب والفضّة ، لجواز بيعها ، ولاعتبار شقّها بعد بيعها عيباً . ومذهب الحنابلة ، وهو القول الآخر للمالكيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة ، حرمة اتّخاذ آنية الذّهب والفضّة ، لأنّ ما حرم استعماله مطلقاً حرم اتّخاذه على هيئة الاستعمال .
رابعاً : حكم إتلاف آنية الذّهب والفضّة :
17 - من يرى جواز اقتناء أواني الذّهب والفضّة يرى أنّ إتلافها موجب للضّمان . أمّا على القول بعدم الجواز فإنّ إتلافها لا يوجب ضمان الصّنعة إن كان يقابلها شيء من القيمة . والكلّ مجمع على ضمان ما يتلفه من العين .
خامساً : زكاة آنية الذّهب والفضّة :
18 - آنية الذّهب والفضّة إذا بلغ كلّ منهما النّصاب وحال الحول عليه وجبت فيه الزّكاة ، وتفصيل ذلك موطنه أبواب الزّكاة .
آيسة
انظر : إياس .
آية
التّعريف
1 - الآية لغةً : العلامة والعبرة ، وشرعاً هي جزء من سورة من القرآن تبيّن أوّله وآخره توقيفاً . والفرق بين الآية والسّورة أنّ السّورة لا بدّ أن يكون لها اسم خاصّ بها ، ولا تقلّ عن ثلاث آيات . وأمّا الآية فقد يكون لها اسم كآية الكرسيّ ، وقد لا يكون ، وهو الأكثر . وقد استعمل الفقهاء الآية بالمعنى اللّغويّ أيضاً ، حين أطلقوا على الحوادث الكونيّة ، كالزّلازل والرّياح والكسوف والخسوف ، إلخ ، اسم الآيات .
( الحكم الإجماليّ )
2 - بما أنّ الآية جزء من القرآن الكريم فإنّ أحكامها تدور في الجملة على أنّه هل تجري عليها أحكام المصحف أو لا ؟ وذلك كما لو كتبت آية من القرآن على لوح فهل يجوز للمحدث مسّه ؟ من الفقهاء من منعه اعتباراً بما فيه من قرآن ، ومنهم من أجازه لعدم شبهه بالمصحف . كما اختلف الفقهاء في إجزاء قراءة الآية الواحدة في الصّلاة ، على تفصيل لهم في ذلك .
( مواطن البحث )
3 - الطّهارة : يتعرّض الفقهاء لحكم مسّ المحدث للوح كتبت عليه آية أو آيات ، في كتاب الطّهارة - ما يحرم بالحدث . الصّلاة : تعرّض الفقهاء لحكم قراءة الآية القرآنيّة أو الآيات في الصّلاة ، في صفة الصّلاة ، وعند الكلام على مستحبّات الصّلاة . وذكروا كذلك ما يتّصل بتلاوة الآية من أحكام ، كالتّنكيس للآي ، وعدّها بالأصابع ، والسّؤال والتّسبيح والتّعوّذ عند آية الرّحمة أو آية العذاب ، وتكرار الآية الواحدة ، وقراءة الآيات من أثناء سورة . كما ذكروا حكم قراءة خطيب الجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء للآية في الخطبة في صلاة الجمعة ، وفي صلاة العيدين ، وصلاة الكسوف ، وصلاة الاستسقاء . كما ذكر بعض الفقهاء حكم الصّلاة عند حدوث الآيات الكونيّة في صلاة الكسوف . سجدة التّلاوة : يذكر تفصيل أحكام تلاوة آية السّجدة في مبحث سجدة التّلاوة . حكم الآية في مواضع متفرّقة : حكم الاستعاذة والبسملة قبل تلاوة الآية فصّله الفقهاء في مبحث الاستعاذة من صفة الصّلاة . وتتعرّض كتب الأذكار والآداب لتلاوة آيات معيّنة من القرآن الكريم في حالات خاصّة ، كقراءة آية الكرسيّ قبل النّوم ، وبعد الصّلاة إلخ .
أب
التّعريف
1 - الأب : الوالد ، وهو إنسان تولّد من نطفته إنسان آخر . وله جموع ، أفصحها : آباء ، بالمدّ . وفي الاصطلاح : هو رجل تولّد من نطفته المباشرة على وجه شرعيّ ، أو على فراشه إنسان آخر . ويطلق الأب من الرّضاع على من نسب إليه لبن المرضع ، فأرضعت منه ولداً لغيره ، ويعبّرون عنه بلبن الفحل .
( الحكم الإجماليّ )
2 - لمّا كان الأب والولد كالشّيء الواحد ، لأنّ الولد بعض أبيه ، كان للأب اختصاص ببعض الأحكام في النّفس والمال ، وترجع في جملتها إلى التّراحم والمسئوليّة . وذلك كواجبه في الحفاظ على الولد ، والنّفقة عليه ، فقد اتّفقوا على أنّه يجب على الأب نفقة الولد في الجملة . على تفصيل يرجع إليه في مباحث النّفقة . واتّفقوا على أنّ للأب حقّ الولاية في تزويج بنته على خلاف بينهم في البكر والثّيّب . ويقدّم على جميع الأولياء إلاّ الابن ، فإنّه يقدّم على الأب عند جمهور الفقهاء . وفي هذه المسألة خلاف الحنابلة ، فإنّ الأب عندهم مقدّم في ولاية التّزويج . واتّفقوا على أحقّيّة الأب في الولاية على مال الصّغير ، أو المجنون ، أو السّفيه من أولاده . كما اتّفقوا على أنّه لا يجب القصاص على الأب بقتل ولده ، على تفصيل عند المالكيّة . واتّفقوا على أنّ الأب أحد الأفراد السّتّة ، الّذين لا يحجبون عن الميراث حجب حرمان بغيرهم بحال ، وهم الأبوان والزّوجان والابن والبنت ، وأنّه يرث تارةً بالفرض ، وتارةً بالتّعصيب ، وتارةً بهما معاً .
( مواطن البحث )
3 - تكثر المسائل الفقهيّة الّتي تتّصل بالأب ، وتفصّل أحكامها في مواطنها من كتب الفقه ، وذلك في : الإرث ، والعقيقة ، والولاية ، والهبة ، والوصيّة ، والعتق ، ومحرّمات النّكاح ، والنّفقة ، والقصاص ، والأمان ، والشّهادة ، والإقرار .
إباحة
التّعريف
1 - الإباحة في اللّغة : الإحلال ، يقال : أبحتك الشّيء أي أحللته لك . والمباح خلاف المحظور . وعرّف الأصوليّون الإباحة بأنّها خطاب اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين تخييراً من غير بدل . وعرّفها الفقهاء بأنّها الإذن بإتيان الفعل حسب مشيئة الفاعل في حدود الإذن . وقد تطلق الإباحة على ما قابل الحظر ، فتشمل الفرض والإيجاب والنّدب .
الألفاظ ذات الصّلة بالإباحة
الجواز
2 - اختلف الأصوليّون في الصّلة بين الإباحة والجواز ، فمنهم من قال : إنّ الجائز يطلق على خمسة معان : المباح ، وما لا يمتنع شرعاً ، وما لا يمتنع عقلاً ، أو ما استوى فيه الأمران ، والمشكوك في حكمه كسؤر الحمار ، ومنهم من أطلقه على أعمّ من المباح ، ومنهم من قصره عليه ، فجعل الجواز مرادفاً للإباحة . والفقهاء يستعملون الجواز فيما قابل الحرام ، فيشمل المكروه . وهناك استعمال فقهيّ لكلمة الجواز بمعنى الصّحّة ، وهي موافقة الفعل ذي الوجهين للشّرع ، والجواز بهذا الاستعمال حكم وضعيّ ، وبالاستعمالين السّابقين حكم تكليفيّ .
الحلّ :
3 - الإباحة ، فيها تخيير ، أمّا الحلّ فإنّه أعمّ من ذلك شرعاً ، لأنّه يطلق على ما سوى التّحريم ، وقد جاء مقابلاً له في القرآن والسّنّة ، كقوله تعالى : { وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا } وقوله : { يا أيّها النّبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللّه لك } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أما إنّي واللّه لا أحلّ حراماً ولا أحرّم حلالاً » . ولمّا كان الحلال مقابلاً للحرام شمل ما عداه من المباح والمندوب والواجب والمكروه مطلقاً عند الجمهور ، وتنزيهاً عند أبي حنيفة . ولهذا قد يكون الشّيء حلالاً ومكروهاً في آن واحد ، كالطّلاق ، فإنّه مكروه ، وإن وصفه الرّسول صلى الله عليه وسلم بأنّه حلال ، وعلى ذلك يكون كلّ مباح حلالاً ولا عكس .
الصّحّة :
4 - الصّحّة هي موافقة الفعل ذي الوجهين للشّرع . ومعنى كونه ذا وجهين أنّه يقع تارةً موافقاً للشّرع ، لاشتماله على الشّروط الّتي اعتبرها الشّارع ، ويقع تارةً أخرى مخالفاً للشّرع . والإباحة الّتي فيها تخيير بين الفعل والتّرك مغايرة للصّحّة . وهما ، وإن كانا من الأحكام الشّرعيّة ، إلاّ أنّ الإباحة حكم تكليفيّ ، والصّحّة حكم وضعيّ على رأي الجمهور . ومنهم من يردّ الصّحّة إلى الإباحة فيقول : إنّ الصّحّة إباحة الانتفاع . والفعل المباح قد يجتمع مع الفعل الصّحيح ، فصوم يوم من غير رمضان مباح ، أي مأذون فيه من الشّرع ، وهو صحيح إن استوفى أركانه وشروطه . وقد يكون الفعل مباحاً في أصله وغير صحيح لاختلال شرطه ، كالعقود الفاسدة . وقد يكون صحيحاً غير مباح كالصّلاة في ثوب مغصوب إذا استوفت أركانها وشروطها عند أكثر الأئمّة .
التّخيير :
5 - الإباحة تخيير من الشّارع بين فعل الشّيء وتركه ، مع استواء الطّرفين بلا ترتّب ثواب أو عقاب ، أمّا التّخيير فقد يكون على سبيل الإباحة ، أي بين فعل المباح وتركه ، وقد يكون بين الواجبات بعضها وبعض ، وهي واجبات ليست على التّعيين ، كما في خصال الكفّارة في قوله تعالى : { لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } فإنّ فعل أيّ واحد منها يسقط المطالبة ، لكنّ تركها كلّها يقتضي الإثم . وقد يكون التّخيير بين المندوبات كالتّنفّل قبل صلاة العصر ، فالمصلّي مخيّر بين أن يتنفّل بركعتين أو بأربع . والمندوب نفسه في مفهومه تخيير بين الفعل والتّرك ، وإن رجّح جانب الفعل ، وفيه ثواب ، بينما التّخيير في الإباحة لا يرجّح فيه جانب على جانب ، ولا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب .
العفو :
6 - من العلماء من جعل العفو الّذي رفعت فيه المؤاخذة ، ونفي فيه الحرج ، مساوياً للإباحة ، كما جاء في الحديث « إنّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها ، وعفا عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » . وهو ما يدلّ عليه قوله تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم عفا اللّه عنها } . فما عفا اللّه عنه لم يكلّفنا به فعلاً أو تركاً ، ولم يرتّب عليه مثوبةً ولا عقاباً . وهو بهذا مساو للمباح .
ألفاظ الإباحة :
7 - الإباحة إمّا بلفظ أو غيره ، سواء من الشّارع أو من العباد . فمثال غير اللّفظ من الشّارع أن يرى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعلاً من الأفعال ، أو يسمع قولاً ، فلا ينكره ، فيكون هذا تقريراً يدلّ على الإباحة . ومثاله من العباد أن يضع الشّخص مائدةً عامّةً ليأكل منها من يشاء . وأمّا اللّفظ فقد يكون صريحاً ، ومن ذلك نفي الجناح ونفي الإثم أو الحنث أو السّبيل أو المؤاخذة . وقد يكون غير صريح ، وهو الّذي يحتاج في دلالته على الإباحة إلى قرينة . ومن ذلك : الأمر بعد الحظر ، كقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } ومنه الأمر المقترن بالمشيئة ، والتّعبير بالحلّ أو نفي التّحريم أو الاستثناء من التّحريم .
من له حقّ الإباحة
الشّارع
8 - الأصل أنّ حقّ الإباحة للشّارع وحده من غير توقّف على إذن من أحد ، وقد تكون الإباحة مطلقةً كالمباحات الأصليّة ، وقد تكون مقيّدةً إمّا بشرط كما في قوله تعالى { أو ما ملكتم مفاتحه } في شأن ما يباح أكله من ملك الغير من غير ضرورة ، أو مقيّدةً بوقت كإباحة أكل الميتة للمضطرّ ( العباد ) :
9 - الإباحة من العباد لا بدّ فيها أن تكون على وجه لا يأباه الشّرع ، وألاّ تكون على وجه التّمليك ، وإلاّ كانت هبةً أو إعارةً . وإذا كانت الإباحة من وليّ الأمر فالمدار فيها - بعد الشّرطين السّابقين - أن تكون منوطةً بالمصلحة العامّة . وهذه الإباحة قد تكون في واجب يسقط بها عنه ، كمن عليه كفّارة ، واختار التّكفير بالإطعام ، فإنّ الدّعوة إلى تناوله إباحة تسقط عنه الكفّارة ، إذ هو مخيّر فيها بين التّمليك لمن يستحقّ ، وبين الإباحة . وهذا عند بعض الفقهاء كالحنفيّة ، خلافاً للشّافعيّة ومن وافقهم الّذين يرون أنّ الإطعام في الكفّارة يجب فيه التّمليك . والإنسان يعرف إذن غيره إمّا بنفسه ، وإمّا بإخبار ثقة يقع في القلب صدقه . فلو قال مملوك مثلاً : هذه هديّة بعث بها إليك سيّدي ، أو قال صبيّ : هذه هديّة بعث بها إليك والدي ، قبل قولهما في حلّها ، لأنّ الهدايا تبعث في العادة على أيدي هؤلاء .
دليل الإباحة وأسبابها :
10 - قد يوجد فعل من الأفعال لم يدلّ الدّليل السّمعيّ على حكمه بخصوصه ، وذلك صادق بصورتين : الأولى عدم ورود دليل لهذا الفعل أصلاً ، والثّانية وروده ولكنّه جهل . وأكثر الأفعال دلّ الدّليل السّمعيّ عليها وعرف حكمها ، وتفصيل ذلك فيما يلي : أ - ( البقاء على الأصل ) :
11 - وهذا ما يعرف بالإباحة الأصليّة ، وجمهور العلماء على أنّه لا حرج على من تركه أو فعله . ويظهر أثر ذلك فيما كان قبل البعثة . وهناك تفصيلات بين علماء الكلام في هذه المسألة يرجع إليها في الملحق الأصوليّ ، أو في كتب علم الكلام . وهذا الخلاف لا محصّل له الآن بعد ورود البعثة ، إذ دلّ النّصّ من كتاب اللّه على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة . قال تعالى : { وسخّر لكم ما في السّموات وما في الأرض جميعاً منه إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون } .
ب - ( ما جهل حكمه ) :
12 - قد يكون الجهل مع وجود الدّليل ، ولكنّ المكلّف - مجتهداً أو غير مجتهد - لم يطّلع عليه ، أو اطّلع عليه المجتهد ولم يستطع استنباط الحكم . والقاعدة في ذلك أنّ الجهل بالأحكام الشّرعيّة إنّما يكون عذراً إذا تعذّر على المكلّف الاطّلاع على الدّليل ، وكلّ من كان في إمكانه الاطّلاع على الدّليل وقصّر في تحصيله لا يكون معذوراً . ويفصّل الفقهاء أحكام هذه المسألة في مواطنها . ومن عذر بجهله فهو غير مخاطب بحكم الفعل ، فلا يوصف فعله بالإباحة بالمعنى الاصطلاحيّ الّذي فيه خطاب بالتّخيير . وإن كان الإثم مرفوعاً عنه بعذر الجهل . وتفصّل هذه الأحكام في مواطنها في بحث ( الجهل ) . وينظر في الملحق الأصوليّ .
طرق معرفة الإباحة :
13 - طرق معرفة الإباحة كثيرة ، من أهمّها : النّصّ : وقد تقدّم الكلام عليه تفصيلاً . بعض أسباب الرّخص : والرّخصة هي ما شرع لعذر شاقّ استثناءً من أصل كلّيّ يقتضي المنع ، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه مع بقاء حكم الأصل . وذلك كالإفطار في رمضان في السّفر ، والمسح على الخفّين ، على تفصيل للفقهاء يرجع إليه في مواطنه . النّسخ : وهو رفع الحكم الشّرعيّ بنصّ شرعيّ متأخّر . والّذي يهمّنا هنا هو نسخ الحظر بنصّ شرعيّ متأخّر فيما كان مباحاً قبل الحظر ، مثل جواز الانتباذ في الأوعية بعد حظره ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن الأوعية فانتبذوا ، واجتنبوا كلّ مسكر » فالأمر بالنّبذ بعد النّهي عنه يفيد رفع الحرج ، وهو معنى الإباحة . العرف . والمختار في تعريفه أنّه ما استقرّ في النّفوس من جهة العقول ، وتلقّته الطّباع السّليمة بالقبول . وهو دليل كاشف إذا لم يوجد نصّ ولا إجماع على اعتباره أو إلغائه ، كالاستئجار بعوض مجهول لا يفضي إلى النّزاع .
الاستصلاح ( المصلحة المرسلة ) : هي كلّ مصلحة غير معتبرة ولا ملغاة بنصّ من الشّارع بخصوصها ، يكون في الأخذ بها جلب منفعة أو دفع ضرر ، كمشاطرة عمر رضي الله عنه أموال الّذين اتّهمهم بالإثراء بسبب عملهم للدّولة ، وهذا حتّى يضع مبدأً للعمّال ألاّ يستغلّوا مراكزهم لصالح أنفسهم .
متعلّق الإباحة :
14 - متعلّق الإباحة اهتمّ به الفقهاء ، وتحدّثوا عن أقسامه وفروعه ، فقسّموه من حيث مصدر الإباحة إلى قسمين : ما أذن فيه الشّارع ، وما أذن فيه العباد . ومن حيث نوع الإباحة إلى قسمين أيضاً : ما فيه تملّك واستهلاك وانتفاع ، وما فيه استهلاك وانتفاع دون تملّك . ولكلّ قسم حكمه ، وبيانه فيما يأتي . المأذون به من الشّارع :
15 - المأذون به من الشّارع ما ورد دليل على إباحته من نصّ أو من مصدر من مصادر التّشريع الأخرى . والحديث هنا سيكون عن المأذون فيه إذناً عامّاً لا يختصّ ببعض الأفراد دون بعضهم الآخر . وفي ذلك مطلبان : مطلب للمأذون فيه على وجه التّملّك والاستهلاك ، وهو المسمّى عند الفقهاء بالمال المباح ، ومطلب للمأذون فيه على وجه الانتفاع فقط ، وهو المسمّى بالمنافع العامّة . المطلب الأوّل ما أذن فيه الشّارع على وجه التّملّك والاستهلاك 16 - المال المباح هو كلّ ما خلقه اللّه لينتفع به النّاس على وجه معتاد ، وليس في حيازة أحد ، مع إمكان حيازته ، ولكلّ إنسان حقّ تملّكه ، سواء أكان حيواناً أم نباتاً أم جماداً . والدّليل على ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم . « من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له » . وهذا التّملّك لا يستقرّ إلاّ عند الاستيلاء الحقيقيّ ، الّذي ضبطوه بوضع اليد على الشّيء المباح ، أي الاستيلاء الفعليّ ، أو كونه في متناول اليد ، وهو الاستيلاء بالقوّة . وقد قال العلماء : إنّ هذا الاستيلاء بإحدى صورتيه لا يحتاج إلى نيّة وقصد في استقرار الملكيّة ، كما قالوا : إنّ الاستيلاء بوساطة آلة وحرفة ومهارة يحتاج إلى القصد ليكون استيلاءً حقيقيّاً ، وإلاّ كان استيلاءً حكميّاً . جاء في الفتاوى الهنديّة ، فيمن علّق كوزه ، أو وضعه في سطحه ، فأمطر السّحاب وامتلأ الكوز من المطر ، فأخذه إنسان ، فالحكم هو استرداد الكوز ، لأنّه ملك صاحبه ، وأمّا الماء فإن كان صاحب الكوز قد وضعه من أجل جمع الماء فيستردّ الماء أيضاً ، لأنّ ملكه حقيقيّ حينئذ ، فإن لم يضعه لذلك لم يستردّه . ومن أمثلة الأموال المباحة الماء والكلأ والنّار والموات والرّكاز والمعادن والحيوانات غير المملوكة . ولكلّ أحكامه .
المطلب الثّاني
ما أذن فيه الشّارع على وجه الانتفاع
17 - وهو ما يسمّى بالمنافع العامّة ، الّتي جعل اللّه إباحتها تيسيراً على عباده ، ليتقرّبوا إليه فيها ، أو ليمارسوا أعمالهم في الحياة مستعينين بها ، كالمساجد ، والطّرق . ويرجع لمعرفة تفصيل أحكامهما إلى مصطلحيهما .
المأذون فيه من العباد
18 - إباحة العباد كذلك على نوعين : نوع يكون التّسليط فيه على العين لاستهلاكها ، ونوع يكون التّسليط فيه على العين للانتفاع بها فقط . إباحة الاستهلاك :
19 - لهذه الإباحة جزئيّات كثيرة نكتفي منها بما يأتي : أ - الولائم بمناسباتها المتعدّدة والمباح فيها الأكل والشّرب دون الأخذ .
ب - الضّيافة . ويرجع في تفصيل أحكامهما إلى مصطلحيهما . إباحة الانتفاع :
20 - هذا النّوع من الإباحة قد يكون مع ملك الآذن لعين ما أذن الانتفاع به كإذن مالك الدّابّة أو السّيّارة لغيره بركوبها ، وإذن مالك الكتب للاطّلاع عليها . وقد يكون الإذن فيما لا يملك عينه ، ولكن يملك منفعته بمثل الإجارة أو الإعارة ، إن لم يشترط فيهما أن يكون الانتفاع شخصيّاً للمستأجر والمستعير .
تقسيمات الإباحة :
21 - للإباحة تقسيمات شتّى باعتبارات مختلفة ، وقد تقدّم أكثرها . وبقي الكلام عن تقسيمها من حيث مصدرها ومن حيث الكلّيّة والجزئيّة : أ - تقسيمها من حيث مصدرها :
22 - تقسّم بهذا الاعتبار إلى إباحة أصليّة ، بألاّ يرد فيها نصّ من الشّارع ، وبقيت على الأصل ، وقد سبق بيانها . وإباحة شرعيّة : بمعنى ورود نصّ من الشّارع بالتّخيير ، وذلك إمّا ابتداءً كإباحة الأكل والشّرب ، وإمّا بعد حكم سابق مخالف ، كما في النّسخ ، أو الرّخص ، وقد سبق . على أنّه ممّا ينبغي ملاحظته أنّه بعد ورود الشّرع أصبحت الإباحة الأصليّة إباحةً شرعيّةً لقول اللّه تعالى { هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } وقوله : { وسخّر لكم ما في السّموات وما في الأرض جميعاً منه } فإنّ هذا النّصّ يدلّ على أنّ كلّ ما خلقه اللّه يكون مباحاً إلاّ ما ورد دليل يثبت له حكماً آخر ، على خلاف وتفصيل يرجع إليه في الملحق الأصوليّ . وقد يكون مصدر الإباحة إذن العباد بعضهم لبعض على ما سبق . ( ف 9 ) .
ب - تقسيمها باعتبار الكلّيّة والجزئيّة :
23 - تنقسم أربعة أقسام :
1 - إباحة للجزء مع طلب الكلّ على جهة الوجوب ، كالأكل مثلاً ، فيباح أكل نوع وترك آخر ممّا أذن به الشّرع ، ولكنّ الامتناع عن الأكل جملةً حرام لما يترتّب عليه من الهلاك .
2 - إباحة للجزء مع طلب الكلّ على جهة النّدب ، كالتّمتّع بما فوق الحاجة من طيّبات الأكل والشّرب ، فذلك مباح يجوز تركه في بعض الأحيان ، ولكنّ هذا التّمتّع مندوب إليه باعتبار الكلّ ، على معنى أنّ تركه جملةً يخالف ما ندب إليه الشّرع من التّحدّث بنعمة اللّه والتّوسعة ، كما في حديث « إنّ اللّه تعالى يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده » وكما قال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه إذا أوسع اللّه عليكم فأوسعوا على أنفسكم .
3 - إباحة للجزء مع التّحريم باعتبار الكلّ ، كالمباحات الّتي تقدح المداومة عليها في العدالة ، كاعتياد الحلف ، وشتم الأولاد ، فذلك مباح في الأصل ، لكنّه محرّم بالاعتياد .
4 - إباحة للجزء مع الكراهة باعتبار الكلّ ، كاللّعب المباح ، فإنّ ذلك وإن كان مباحاً بالأصل إلاّ أنّ المداومة عليه مكروهة .
( آثار الإباحة )
24 - إذا ثبتت الإباحة ثبت لها من الآثار ما يلي :
1 - رفع الإثم والحرج . وذلك ما يدلّ عليه تعريف الإباحة بأنّه لا يترتّب على الفعل المباح إثم .
2 - التّمكين من التّملّك المستقرّ بالنّسبة للعين ، والاختصاص بالنّسبة للمنفعة : وذلك لأنّ الإباحة طريق لتملّك العين المباحة . هذا بالنّسبة للعين . أمّا بالنّسبة للمنفعة المباحة فإنّ أثر الإباحة فيها اختصاص المباح له بالانتفاع ، وعبارات الفقهاء في المذاهب المختلفة تتّفق في أنّ تصرّف المأذون له في طعام الوليمة قبل وضعه في فمه لا يجوز بغير الأكل ، إلاّ إذا أذن له صاحب الوليمة أو دلّ عليه عرف أو قرينة . وبهذا تفارق الإباحة الهبة والصّدقة بأنّ فيهما تمليكاً ، كما أنّها تفارق الوصيّة حيث تكون هذه مضافةً إلى ما بعد الموت ، ولا بدّ فيها من إذن الدّائنين ، والورثة أحياناً ، كما لا بدّ من صيغة في الوصيّة .
25 - هذه هي آثار الإباحة للأعيان في إذن العباد . أمّا آثار الإباحة للمنافع فإنّ إباحتها لا تفيد إلاّ حلّ الانتفاع فقط ، على ما تقدّم تفصيله . فحقّ الانتفاع المجرّد من قبيل التّرخيص بالانتفاع الشّخصيّ دون الامتلاك ، وملك المنفعة فيه اختصاص حاجز لحقّ المستأجر من منافع المؤجّر ، فهو أقوى وأشمل ، لأنّ فيه حقّ الانتفاع وزيادةً . وآثار ذلك قد تقدّم الكلام عليها .
( الإباحة والضّمان ) :
26 - الإباحة لا تنافي الضّمان في الجملة ، لأنّ إباحة اللّه - وإن كان فيها رفع الحرج والإثم - إلاّ أنّها قد يكون معها ضمان ، فإباحة الانتفاع تقتضي صيانة العين المباحة عن التّخريب والضّرر ، وما حدث من ذلك لا بدّ من ضمانه . وإباحة الأعيان كأخذ المضطرّ طعام غيره لا تمنع ضمان قيمته إذا كان بغير إذنه ، لأنّ اللّه جعل للعبد حقّاً في ملكه ، فلا ينقل الملك منه إلى غيره إلاّ برضاه ، ولا يصحّ الإبراء منه إلاّ بإسقاطه ، كما يقول القرافيّ في الفروق . وحكى القرافيّ في هذه المسألة قولين : أحدهما : لا يضمن ، لأنّ الدّفع كان واجباً على المالك ، والواجب لا يؤخذ له عوض . والقول الثّاني : يجب ، وهو الأظهر والأشهر ، لأنّ إذن المالك لم يوجد ، وإنّما وجد إذن صاحب الشّرع ، وهو لا يوجب سقوط الضّمان ، وإنّما ينفي الإثم والمؤاخذة بالعقاب . أمّا إباحة العباد بعضهم لبعض فقد تقدّم الكلام عليها مفصّلاً .
ما تنتهي به الإباحة :
27 - أوّلاً : إباحة اللّه سبحانه لا تنتهي من جهته هو ، لأنّه سبحانه حيّ باق ، والوحي قد انقطع ، فلا وحي بعد محمّد صلى الله عليه وسلم وإنّما تنتهي بانتهاء دواعيها ، كما في الرّخص ، فإذا وجد السّفر في نهار رمضان مثلاً وجدت الإباحة بالتّرخيص في الفطر ، فإذا انتهى السّفر انتهت الرّخصة .
28 - ثانياً : وإباحة العباد تنتهي بأمور : أ - انتهاء مدّتها إن كانت مقيّدةً بزمن ، فالمؤمنون عند شروطهم ، وإذا فقد الشّرط فقد المشروط .
ب - رجوع الآذن في إذنه ، حيث إنّه ليس واجباً عليه ، فهو تبرّع منه ، كما قال جمهور العلماء . وهي لا تنتهي بمجرّد الرّجوع ، بل لا بدّ من علم المأذون له به ، كما هو مقتضى قواعد الحنفيّة ، وهو قول للشّافعيّ . وذكر السّيوطيّ في الأشباه والنّظائر قولاً آخر للشّافعيّ ، يفيد أنّ الإباحة تنتهي بمجرّد رجوع الآذن ، ولو لم يعلم المأذون له .
ج - موت الآذن لبطلان الإذن بموته ، فتنتهي آثاره .
د - موت المأذون له ، لأنّ حقّ الانتفاع رخصة شخصيّة له لا تنتقل إلى ورثته إلاّ إذا نصّ الآذن على خلافه .
مواقع النشر (المفضلة)