القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي
32 - الأصل في القضاء به السّنّة ، والإجماع ، والمعقول : أمّا السّنّة فما روى الضّحّاك بن سفيان قال : « كتب إليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها » . وأجمعت الأمّة على القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي . وأمّا المعقول فلأنّ الحاجة داعية إليه . فإنّ من له حقّ في بلد غير بلده قد يشقّ عليه السّفر إليه والمطالبة بحقّه إلاّ بكتاب القاضي ، فوجب قبوله . والكتاب على ضربين : أحدهما : أن يكتب بما حكم به ، وذلك مثل أن يحكم على رجل بحقّ ، فيغيب قبل إيفائه ، أو يدّعي حقّاً على غائب ، ويقيم به بيّنةً ، ويسأل الحاكم الحكم عليه ، فيحكم عليه ويسأله أن يكتب له كتاباً يحمله إلى قاضي البلد الّذي فيه الغائب فيكتب له إليه ، أو تقوم البيّنة على حاضر فيهرب قبل الحكم فيسأل صاحب الحقّ الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتاباً يحمله ، ففي هذه الصّور الثّلاث يلزم الحاكم إجابته إلى الكتابة ، ويلزم المكتوب إليه قبوله . الضّرب الثّاني : أن يكتب بعلمه بشهادة شاهدين عنده بحقّ لفلان ، مثل أن تقوم البيّنة عنده بحقّ لرجل على آخر ، ولم يحكم به ، فيسأله صاحب الحقّ أن يكتب له كتاباً بما حصل عنده . فإنّه يكتب له ، ويذكر في الكتاب ما شهد به الشّاهدان ليقضي بشهادتهما القاضي المكتوب له . فيجب على القاضي المكتوب إليه أن يقضي بذلك إذا توافرت شروط قبوله .
محلّ القضاء بكتاب القاضي وشروطه :
33 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في جواز القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي في الجملة ، غير أنّهم يختلفون فيما يكتب فيه القاضي إلى القاضي ، وفي الشّروط الواجب تحقّقها في الكتاب . فعند الحنفيّة : يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في غير الحدود والقصاص . وعند المالكيّة والشّافعيّة يجوز القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي في الأموال والحدود والقصاص ، وكلّ ما هو من حقوق العباد . وعند الحنابلة يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في المال وما يقصد به المال ، كالقرض والغصب ، ولا يقبل في حدّ للّه تعالى . وهل يقبل فيما عدا ذلك ، مثل القصاص والنّكاح والطّلاق والخلع والنّسب ؟ على روايتين . فأمّا حدّ القذف فإن قيل : إنّه حقّ للّه تعالى ، فلا يقبل فيه ، وإن قيل : إنّه حقّ الآدميّ ، فهو كالقصاص . وفي كلّ مذهب تفصيلات وشروط : فمنهم من يشترط أن يكون بين القاضي الكاتب والقاضي المكتوب إليه مسافة قصر ، سواء أكان المكتوب به حكماً أم شهادةً ومنهم من لا يشترط ذلك ، ومنهم من يشترط المسافة في الكتابة بالشّهادة دون الحكم . ويشترط بعض الفقهاء أن يكون كلّ من الكاتب والمكتوب إليه على ولاية القضاء حين الكتابة ، وحين الحكم ، ومنهم من يشترط أن يكون كلّ على الولاية حين الكتابة فقط . ومثل كتاب القاضي إلى القاضي : أن يكون لقاضيان في بلد واحد ، ويؤدّي أحدهما إلى الآخر مشافهةً . وكلّ ما يتعلّق بكتاب القاضي إلى القاضي من شروط وغيرها إجراءات تختلف باختلاف الأزمان والأعراف . وقد وضع الفقهاء القواعد والشّروط بحسب ما رأوه مناسباً في أزمنتهم . وقوام الأمر في ذلك هو الاستيثاق من أنّ المكتوب صادر من قاض مختصّ بكتابة ما كتب . وقد تغيّرت الإجراءات والأعراف وتضمّنت قوانين المرافعات في العصور الحديثة إجراءات تعود كلّها إلى الضّبط والاستيثاق ، ولا تنافي نصّاً ولا حكماً فقهيّاً ، ومن ثمّ فلا بأس من تطبيقها والعمل بها .
حجّيّة الخطّ والختم :
34 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة ووجه عند الشّافعيّة وأحد أقوال ثلاثة للإمام أحمد أنّه يعمل بالخطّ إذا وثق به ولم توجد فيه ريبة من محو أو كشط أو تغيير ، وذلك في الأموال وما يشبهها ممّا يثبت مع الشّبهة ، كالطّلاق والنّكاح والرّجعة . وهذا في المعاملات بين النّاس . أمّا ما يجده القاضي في السّجلاّت السّابقة على تولّيه فمذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والمشهور من مذهب الشّافعيّة ، وأحد أقوال ثلاثة للإمام أحمد : أنّه يعمل بما فيها إذا انتفت الرّيبة . وبالنّسبة لما وجد في السّجلاّت الّتي تمّت في عهده فالفقهاء مجمعون على أنّه إن تيقّن أنّه خطّه ، وذكر الحادثة ، فإنّه يعمل به وينفذ . وهذا كلّه فيما إذا أنكر السّند من يدّعى عليه بما فيه . ومن الفقهاء من يرى أنّه إن تيقّن أنّه خطّه يعمل به وإن لم يذكر الحادثة ، ومن يتتبّع أقوال الفقهاء جميعاً في حجّيّة الخطّ والختم يتبيّن له أنّ المعوّل عليه هو الاستيثاق من صحّة الكتابة ، وعدم وجود شبهة فيها ، فإن انتفت عمل بها ونفذت ، وإلاّ فلا . وقد استحدثت نظم وآلات يمكن بواسطتها اكتشاف التّزوير في المستندات . فإن طعن على سند ما بالتّزوير أمكن التّحقيق في ذلك . وهذا ما تجري عليه المحاكم الآن . وليس في قواعد الشّريعة ما يمنع من تطبيق النّظم الحديثة إذ هي لا تخالف نصّاً شرعيّاً ، ولا تجافي ما وضعه الفقهاء من قواعد وضوابط رأوها مناسبةً في أزمنتهم .
القضاء بقول القافة :
35 - القافة جمع قائف ، وهو في اللّغة : من يتّبع الأثر . وفي الشّرع الّذي يتتبّع الآثار ويتعرّف منها الّذين سلكوها ، ويعرف شبه الرّجل بأبيه وأخيه ويلحق النّسب عند الاشتباه ، بما خصّه اللّه تعالى به من علم ذلك . فعند الأئمّة الثّلاثة : مالك والشّافعيّ وأحمد ، أنّه يحكم بالقافة في ثبوت النّسب ، خلافاً للحنفيّة . ويرجع في تفصيل ذلك إلى مصطلح ( قيافة ) .
القضاء بالقرعة :
36 - القرعة : طريقة تعمل لتعيين ذات أو نصيب من بين أمثاله إذا لم يمكن تعيينه بحجّة . وقد نصّ الفقهاء على أنّه " متى تعيّنت المصلحة أو الحقّ في جهة ، فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره ، لأنّ في القرعة ضياع ذلك الحقّ المعيّن والمصلحة المعيّنة . ومتى تساوت الحقوق والمصالح فهذا هو موضع القرعة عند التّنازع ، دفعاً للضّغائن والأحقاد ، وللرّضا بما جرت به الأقدار ، وهي مشروعة في مواضع » . وتفصيل ذلك موطنه مصطلح ( قرعة ) .
القضاء بالفراسة :
37 - الفراسة في اللّغة : الظّنّ الصّائب النّاشئ عن تثبيت النّظر في الظّاهر لإدراك الباطن . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . وفقهاء المذاهب لا يرون الحكم بالفراسة ، فإنّ مدارك الأحكام معلومة شرعاً ، مدركة قطعاً . وليست الفراسة منها . ولأنّها حكم بالظّنّ والحزر والتّخمين ، وهي تخطئ وتصيب . ولكنّ ابن القيّم أورد حججاً على شرعيّة العمل بالفراسة ، وساق على ذلك شواهد وأمثلةً . وتفصيل الكلام في مصطلح ( فراسة ) .
القضاء بقول أهل المعرفة ( الخبرة ) :
38 - اتّفق فقهاء المذاهب على جواز القضاء بقول أهل المعرفة فيما يختصّون بمعرفته إذا كانوا حذّاقاً مهرةً . ومن ذلك الاستعانة في معرفة قدم العيب أو حداثته . ويرجع إلى أهل الطّبّ والمعرفة بالجراح في معرفة طول الجرح ، وعمقه وعرضه ، وهم الّذين يتولّون استيفاء القصاص . وكذلك يرجع إلى أهل المعرفة من النّساء فيما لا يطّلع عليه غيرهنّ كالبكارة .
القضاء بالاستصحاب :
39 - الاستصحاب في اللّغة الملازمة وعدم المفارقة . وفي الاصطلاح : هو استبقاء الوصف المثبت للحكم حتّى يثبت خلافه . وقد ذهب الجمهور ( المالكيّة والحنابلة وأكثر الشّافعيّة ) إلى أنّه حجّة سواء أكان في النّفي أم الإثبات . وأمّا الحنفيّة فقد تعدّدت الآراء عندهم في حجّيّته بين الإطلاق والتّقييد ، فمنهم من منع حجّيّته ، ومنهم من قيّدها بأنّه حجّة للدّفع لا للإثبات . وللاستصحاب أنواع وأقسام . وتفصيل ذلك موطنه ( استصحاب ) .
القضاء بالقسامة :
40 - من معاني القسامة في اللّغة اليمين مطلقاً ، إلاّ أنّها في عرف الشّرع تستعمل في اليمين باللّه تبارك وتعالى ، بسبب مخصوص ، وعدد مخصوص ، وعلى أشخاص مخصوصين ، على وجه مخصوص . 41 - ومحلّ القسامة يكون عند وجود قتيل في محلّة لا يعرف قاتله . فذهب مالك والشّافعيّ وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه إلى أنّه إذا لم يكن هناك عداوة ولا لوث ( أي شبهة قويّة توجب غلبة الظّنّ بصحّة التّهمة ) كانت هذه الدّعوى كسائر الدّعاوى : البيّنة على المدّعي ، والقول قول المنكر . وليس في ذلك يمين ، لأنّ النّكول عن اليمين بذل ، ولا بذل في الأنفس ، فلا يحلّ للإنسان أن يبيح لغيره قتل نفسه ، وعليه القصاص إن فعل . وأمّا إذا كان هناك لوث ، كالعداوة الظّاهرة ، وادّعى أولياء القتيل على معيّن أنّه قتله ، حلف من الأولياء خمسون أنّ فلاناً هو قاتله عمداً ، فيستحقّون القصاص ، أو خطأً ، فيستحقّون الدّية . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ القسامة لا توجّه إلاّ إلى المدّعى عليهم ، فيختار أولياء القتيل خمسين من أهل المحلّة ، فيحلفون أنّهم ما قتلوه ، ولا يعرفون له قاتلاً . فيسقط القصاص ، وتستحقّ الدّية . وفي ذلك تفصيل واختلاف ، موطن بيانه بحث القسامة .
القضاء بالعرف والعادة :
42 - العرف : ما استقرّ في النّفوس من جهة العقول ، وتلقّته الطّباع السّليمة بالقبول . ويدخل في هذا التّعريف " العادة " على أنّهما مترادفان . وقيل : العادة أعمّ ، لأنّها تثبت بمرّة ، وتكون لفرد أو أفراد . وهما حجّة ، لبناء الأحكام عليهما ، ما لم يصادما نصّاً أو قاعدةً شرعيّةً . ويستند إليهما في تفسير المراد . وفي ذلك خلاف وتفصيل موطنه الملحق الأصوليّ .
أثر
التّعريف
1 - من معاني الأثر في اللّغة : بقيّة الشّيء ، أو الخبر . ويقال : أثّر فيه تأثيراً : ترك فيه أثراً . ولا يخرج استعمال الفقهاء والأصوليّين للفظ « أثر " عن هذه المعاني اللّغويّة . فيطلقون الأثر - بمعنى البقيّة - على بقيّة النّجاسة ونحوها ، كما يطلقونه بمعنى الخبر فيريدون به الحديث المرفوع أو الموقوف أو المقطوع ، وبعض الفقهاء يقصرونه على الموقوف ، ويطلقونه بمعنى ما يترتّب على الشّيء ، وهو المسمّى بالحكم عندهم ، كما إذا أضيف الأثر إلى الشّيء فيقال : أثر العقد ، وأثر الفسخ ، وأثر النّكاح وغير ذلك .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - علامة الشّيء تكون قبله ، وأثره يكون بعده ، تقول : الغيوم والرّياح علامات المطر . ومجرى السّيول : أثر المطر ، دلالةً عليه ، وليس برهاناً عليه . والمأثور : يطلق على القول والفعل ، أمّا الأثر فلا يطلق إلاّ على القول . والخبر غالباً ما يطلق على الحديث المرفوع ، والأثر ما نسب إلى الصّحابة . الحكم الإجماليّ :
3 - يختلف الحكم تبعاً للاستعمالات الفقهيّة أو الأصوليّة . أمّا الاستعمال بمعنى بقيّة الشّيء : فالحكم أنّه إن تعذّر إزالة أثر النّجاسة فيكون معفوّاً عنه . وأمّا الاستعمال بمعنى ما يترتّب على الشّيء ، فالفقهاء يعتبرون الأثر في العقد هو ما شرع العقد له ، كانتقال الملكيّة في البيع ، وحلّ الاستمتاع في النّكاح . وأمّا الاستعمال بمعنى الحديث الموقوف أو المرفوع فموطن تفصيله الملحق الأصوليّ .
( مواطن البحث )
4 - يبحث استعمال الأثر بمعنى ما يترتّب على الشّيء في كتب الفقه كلّ مسألة في بابها . أمّا بمعنى بقيّة الشّيء فقد بحثها الفقهاء في الطّهارة عند الحديث عن أثر النّجاسة ، وفي الجنايات عند الكلام عن أثر الجناية .
إثم
التّعريف
1 - الإثم لغةً : هو الذّنب . وقيل : أن يعمل ما لا يحلّ له . وفي اصطلاح أهل السّنّة : الإثم استحقاق العقوبة . وعند المعتزلة . لزوم العقوبة . والاختلاف بين التّعريفين يدور على جواز العفو وعدمه عند كلّ من الفريقين .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الذّنب : قيل هو الإثم . وعلى هذا يكون مرادفاً للإثم . الخطيئة : من معانيها الذّنب عن عمد . وهي بهذا المعنى تكون مطابقةً للإثم . وقد تطلق على غير العمد فتكون بهذا المعنى مخالفةً للإثم ، إذ الإثم لا يكون إلاّ عن عمد . الحكم الإجماليّ :
3 - يتعلّق الإثم ببعض الأمور منها : أ - ترك الفرض : فيأثم تارك فرض العين ، كترك الصّلاة . وكذلك يأثم تارك فرض الكفاية إذا تركه الكلّ ، كصلاة الجنازة .
ب - ترك الواجب : إذا اعتبر مرادفاً للفرض فهو مثله في الحكم . وأمّا إن اعتبر غير مرادف للفرض - وهو صنيع الحنفيّة - فإنّه يأثم الفرد - وكذلك الجماعة - بتركه إثماً ليس كإثم ترك الفرض .
ج - ( ترك السّنن إذا كانت من الشّعائر ) : إذا كانت السّنّة المؤكّدة من الشّعائر الدّينيّة ، كالأذان والجماعة فتركه يستلزم الإثم على الجماعة في الجملة . وكذلك الالتزام بترك السّنّة المؤكّدة موجب للإثم عند البعض . والحقّ أنّ ترك الفرض والواجب والسّنّة المؤكّدة في هذه الحالة كلّه يرجع إلى الحرام .
د - ( فعل الحرام والمكروه ) : فعل الحرام موجب للإثم . أمّا المكروه فإذا كان مكروهاً كراهةً تحريميّةً يأثم فاعله . أمّا إذا كان مكروهاً كراهةً تنزيهيّةً ، فلا يأثم فاعله .
ترك المباح أو فعله :
4 - لا يلزم من فعل المباح أو تركه إثم ولا كراهة ، مثل العمل بالقراض والمساقاة . الإثم وعوارض الأهليّة :
5 - تعلّق الإثم بأفعال المكره والنّاسي والمخطئ والسّكران فيه تفصيل واختلاف بين الفقهاء ، ويرجع إليه في مواطنه .
( الإثم والحدود ) :
6 - قال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : الحدود لا تذهب الآثام ( العقوبة الأخرويّة ) ولا تكون مطهّرةً ، وقال الشّافعيّ : هي مطهّرة للمسلم ، وغير مطهّرة للكافر .
إجابة
التّعريف
1 - الإجابة في اللّغة : رجع الكلام . والإجابة والاستجابة بمعنًى واحد ، تقول : أجابه عن سؤاله واستجاب له إذا دعاه إلى شيء فأطاع ، وأجاب اللّه دعاءه قبله ، واستجاب له كذلك . وجواب القول قد يتضمّن إقراره ، وقد يتضمّن إبطاله ، ولا يسمّى جواباً إلاّ بعد الطّلب . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ . والإجابة قد تكون بالفعل ، كإجابة الدّعوة إلى الوليمة ، وقد تكون القول ، سواء كانت بجملة كردّ السّلام ، أم بحرف الجواب فقط كنعم وبلى ، حيث يؤخذ به في الأحكام . وقد تكون بالإشارة المفهومة . وقد يعتبر السّكوت إجابةً كسكوت البكر عند استئذانها في النّكاح .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الإغاثة هي : الإعانة والنّصرة . والإجابة قد تكون إعانةً وقد لا تكون . والإجابة لا بدّ أن يسبقها طلب ، أمّا الإغاثة فقد تكون بلا طلب . والقبول هو التّصديق والرّضا ، أمّا الإجابة فقد تكون تصديقاً ورضاً وقد لا تكون .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الحكم التّكليفيّ للإجابة بحسب الأمر المطلوب . فالإجابة إلى دعوة الإسلام ، والعمل بما خوطب به الإنسان من فرائض الدّين ، وإجابة الأمير للجهاد ، أمور واجبة بلا خلاف . وما كان لدفع ضرر عن الغير ، كإجابة المستغيث ، فإجابته أمر واجب باتّفاق ، حتّى إنّ الصّلاة تقطع لإجابته . وما كان لقطع الخصومة والمنازعة ، كإجابة المدّعى عليه أمام القاضي ، وكالإجابة في تحمّل الشّهادة ، فهو واجب باتّفاق . وقد تكون الإجابة مستحبّةً كإجابة المؤذّن وهي أن تقول مثل ما يقول . وقد تكون الإجابة محرّمةً كالإجابة للمعصية . أمّا الإجابة في العقود فهي ما قابلت الإيجاب . وتسمّى في عرف الفقهاء بالقبول . وأمّا الإجابة من اللّه سبحانه وتعالى فهي القبول الّذي يرجوه الإنسان من اللّه بدعائه وعمله .
( مواطن البحث )
4 - للإجابة أحكام متعدّدة مفصّلة في مواطنها ، ومن ذلك : إجابة الوليمة في باب النّكاح ، وإجابة الوالدين في باب الجهاد ، وفي باب الصّلاة ، وردّ السّلام أثناء خطبة الجمعة ، والسّعي لنداء الجمعة والإجابة ( القبول ) في العقود ، كالوصيّة والبيع وغير ذلك .
إجارة تعريف الإجارة :
1 - الإجارة في اللّغة اسم للأجرة ، وهي كراء الأجير وهي بكسر الهمزة ، وهو المشهور . وحكي الضّمّ بمعنى المأخوذ وهو عوض العمل ، ونقل الفتح أيضاً ، فهي مثلّثة ، لكن نقل عن المبرّد أنّه يقال : أجّر وآجر إجاراً وإجارةً . وعليه فتكون مصدراً وهذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحيّ .
2 - وعرّفها الفقهاء : بأنّها عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض . ويخصّ المالكيّة غالباً لفظ الإجارة بالعقد على منافع الآدميّ ، وما يقبل الانتقال غير السّفن والحيوان ، ويطلقون على العقد على منافع الأراضي والدّور والسّفن والحيوانات لفظ كراء ، فقالوا : الإجارة والكراء شيء واحد في المعنى .
3 - وما دامت الإجارة عقد معاوضة فيجوز للمؤجّر استيفاء الأجر قبل انتفاع المستأجر ، على التّفصيل الّذي سيرد في موضعه ، كما يجوز للبائع استيفاء الثّمن قبل تسليم المبيع ، وإذا عجّلت الأجرة تملّكها المؤجّر اتّفاقاً دون انتظار لاستيفاء المنفعة ، على ما سيأتي بيانه .
الإجارة من حيث اللّزوم وعدمه :
4 - الأصل في عقد الإجارة عند الجمهور اللّزوم ، فلا يملك أحد المتعاقدين الانفراد بفسخ العقد إلاّ لمقتض تنفسخ به العقود اللاّزمة ، من ظهور العيب ، أو ذهاب محلّ استيفاء المنفعة . واستدلّوا بقوله تعالى { أوفوا بالعقود } وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجوز للمكتري فسخ الإجارة للعذر الطّارئ على المستأجر مثل أن يستأجر دكّاناً يتّجر فيه ، فيحترق متاعه أو يسرق ، لأنّ طروء هذا وأمثاله ، يتعذّر معه استيفاء المنفعة المعقود عليها ، وذلك قياساً على هلاك العين المستأجرة ، وحكى ابن رشد أنّه عقد جائز .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : البيع :
5 - مع أنّ الإجارة من قبيل البيع فإنّها تتميّز بأنّ محلّها بيع المنفعة لا العين . في حين أنّ عقود البيع كلّها التّعاقد فيها على العين . كما أنّ الإجارة تقبل التّنجيز والإضافة ، بينما البيوع لا تكون إلاّ منجزةً . والإجارة لا يستوفى المعقود عليه فيها وهو المنفعة دفعةً واحدةً ، أمّا في البيوع فيستوفى المبيع دفعةً واحدةً . كما أنّه ليس كلّ ما يجوز إجارته يجوز بيعه ، إذ تجوز إجارة الحرّ لأنّ الإجارة فيه على عمل ، بينما لا يجوز أن يباع لأنّه ليس بمال .
( الإعارة ) :
6 - تفترق الإجارة عن الإعارة في أنّ الإجارة تمليك منفعة بعوض ، وأنّ الإعارة إمّا تمليك منفعة بلا عوض ، أو إباحة منفعة ، على خلاف بين الفقهاء تفصيله في موطنه .
( الجعالة ) :
7 - تفترق الإجارة عن الجعالة في أنّ الجعالة إجارة على منفعة مظنون حصولها ولا ينتفع الجاعل بجزء من عمل العامل وإنّما بتمام العمل ، وأنّ الجعالة غير لازمة في الجملة .
( الاستصناع ) :
8 - تفترق الإجارة ( في الأجير المشترك ) عن عقد الاستصناع ( الّذي هو بيع عين شرط فيها العمل ) في أنّ الإجارة تكون العين فيها من المستأجر والعمل من الأجير ، أمّا الاستصناع فالعين والعمل كلاهما من الصّانع ( الأجير ) .
صفة الإجارة ( حكمها التّكليفيّ ) ودليله :
9 - عقد الإجارة الأصل فيه أنّه مشروع على سبيل الجواز . والدّليل على ذلك الكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول : أمّا الكتاب فمنه قوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ } . ومن السّنّة ما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من استأجر أجيراً فليعلمه أجره » ، وقوله : « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه » ، وقوله : « ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة وعدّ منهم رجلاً استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره » . وكذلك فعله عليه الصلاة والسلام وتقريره . وأمّا الإجماع فإنّ الأمّة أجمعت على العمل بها منذ عصر الصّحابة وإلى الآن وأمّا دليلها من المعقول فلأنّ الإجارة وسيلة للتّيسير على النّاس في الحصول على ما يبتغونه من المنافع الّتي لا ملك لهم في أعيانها ، فالحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان ، فالفقير محتاج إلى مال الغنيّ ، والغنيّ محتاج إلى عمل الفقير . ومراعاة حاجة النّاس أصل في شرع العقود . فيشرع على وجه ترتفع به الحاجة ، ويكون موافقاً لأصل الشّرع . وهذه هي حكمة تشريعها .
الفصل الثّاني أركان عقد الإجارة تمهيد :
10 - يختلف الفقهاء في تعداد أركان عقد الإجارة ، فالجمهور على أنّها : الصّيغة ( الإيجاب والقبول ) ، والعاقدان ، والمعقود عليه ( المنفعة والأجرة ) ، وذهب الحنفيّة إلى أنّها الصّيغة فقط ، وأمّا العاقدان والمعقود عليه فأطراف للعقد ومن مقوّماته ، فلا قيام للعقد إلاّ باجتماع ذلك كلّه . فالخلاف لفظيّ لا ثمرة له . الصّيغة :
11 - صيغة عقد الإجارة ما يتمّ بها إظهار إرادة المتعاقدين من لفظ أو ما يقوم مقامه ، وذلك بإيجاب يصدره المملّك ، وقبول يصدره المتملّك على ما يرى الجمهور ، في حين يرى الحنفيّة أنّ الإيجاب ما صدر أوّلاً من أحد المتعاقدين والقبول ما صدر بعد ذلك من الآخر . وتفصيل الكلام في الصّيغ موطنه عند الكلام عن العقد .
12 - جمهور الفقهاء على أنّ الإجارة تنعقد بأيّ لفظ دالّ عليها ، كالاستئجار والاكتراء والإكراء . وتنعقد بأعرتك هذه الدّار شهراً بكذا ، لأنّ العاريّة بعوض إجارة . كما تنعقد بوهبتك منافعها شهراً بكذا ، وصالحتك على أن تسكن الدّار لمدّة شهر بكذا ، أو ملّكتك منافع هذه الدّار سنةً بكذا ، أو عوّضتك منفعة هذه الدّار سنةً بمنفعة دارك ، أو سلّمت إليك هذه الدّراهم في خياطة هذا ، أو في دابّة صفتها كذا ، أو في حملي إلى مكّة ، فيقول : قبلت ، مع أنّ هذه الألفاظ لم توضع في اللّغة لذلك ، لكنّها أفادت في هذا المقام تمليك المنفعة بعوض .
13 - وتوسّع الحنابلة في ذلك حتّى قالوا : تنعقد الإجارة بلفظ أجّرت وما في معناه كالكراء ، سواء أضافه إلى العين ، نحو أجرتكها أو أكريتكها ، أو أضافه إلى النّفع ، نحو قوله : آجرتك نفع هذه الدّار ، أو : ملّكتك نفعها . وتنعقد أيضاً بلفظ بيع مضافاً إلى النّفع ، نحو قوله : بعتك نفعها ، أو : بعتك سكنى الدّار ، ونحوه . وقالوا : التّحقيق أنّ المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأيّ لفظ كان من الألفاظ الّتي عرف بها المتعاقدان مقصودها ، فإنّ الشّارع لم يحدّ حدّاً لألفاظ العقد ، بل ذكرها مطلقةً . وانعقادها بلفظ البيع مضافاً إلى المنافع قول عند الحنفيّة أيضاً ، وقول عند الشّافعيّة ، لأنّه صنف من البيع ، لأنّه تمليك يتقسّط العوض فيه على المعوّض ، كالبيع ، فانعقد بلفظه .
14 - وفي القول الأصحّ عند الشّافعيّة وقول عند الحنفيّة لا تنعقد الإجارة بلفظ : بعتك منفعتها ، لأنّ المنفعة مملوكة بالإجارة ، ولفظ البيع وضع لتمليك العين ، فذكره في المنفعة مفسد ، لأنّه ليس بكناية عن العقد ، ولأنّه يخالف البيع في الاسم والحكم ، ولأنّ بيع المعدوم باطل ، والمنافع المعقود عليها معدومة وقت العقد كما يقول الحنفيّة .
الإجارة بالمعاطاة .
15 - أجاز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة التّعاقد بالأفعال في الأشياء الخسيسة والنّفيسة ما دام الرّضا قد تحقّق ، وفهم القصد ، وهو قول عند الشّافعيّة اختاره النّوويّ وجماعة . وقيّد القدوريّ الحنفيّ الجواز بأنّه في الأشياء الخسيسة دون النّفيسة . وهو قول أيضاً عند الشّافعيّة ، والمذهب عندهم المنع ، والعبرة بما تدلّ عليه ظروف الحال ، كأن تكون العين المؤجّرة معدّةً للاستغلال ، كمن يبيت في الخان ( الفندق ) فإنّه يكون بأجر . وبناءً على أصل مذهب الشّافعيّة من منع عقود المعاطاة لو دفع ثوباً إلى خيّاط ليخيطه ، ففعل ، ولم يذكر أحدهما أجرةً ، فلا أجرة له . وقيل : له أجرة مثله لاستهلاكه منفعته . وقيل : إن كان معروفاً بذلك العمل بالأجر فله أجرة مثله ، وإلاّ فلا .
تنجيز الإجارة وإضافتها وتعليقها :
16 - الأصل في الإجارة أن تكون منجزةً ، فإذا لم يوجد ما يصرف الصّيغة عن التّنجيز ، أو لم ينصّ على بداية العقد ، فإنّ الإجارة تبدأ من وقت العقد ، وتكون منجزةً . هذا ، ويختلف الحكم في إضافة صيغة الإجارة إلى المستقبل بين أن تكون إجارةً على عين أو ثابتةً في الذّمّة . فالإجارة الثّابتة في الذّمّة هي الواردة على منفعة موصوفة مع التزامها في الذّمّة ، كأن يستأجر سيّارةً موصوفةً بصفات يتّفق عليها ، ويقول : ألزمت ذمّتك إجارتي إيّاها . فإن أطلق ولم يذكر الذّمّة كانت إجارة عين . وإجارة العين هي الواردة على منفعة معيّن ، كالعقار والحيوان ومنفعة الإنسان . فالجمهور لم يفرّقوا بين هذين في صحّة الإضافة للمستقبل . وذهب الشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى أنّ الإضافة صحيحة فيما يثبت في الذّمّة ، لا فيما كانت واردةً على الأعيان ، إلاّ في بعض صور مستثناة أجازوا فيها الإضافة في إجارة الأعيان إذا كانت المدّة بين العقد وبين المدّة المضاف إليها زمناً يسيراً ، كأن تعقد الإجارة ليلاً لمنفعة النّهار التّالي ، أو يعقد الإجارة على سيّارة للحجّ قبل أن يبدأ ، بشرط أن يكون قد تهيّأ أهل بلده . على أنّ الرّافعيّ والنّوويّ يريان أنّ التّفرقة لفظيّة ، لأنّ إجارة الذّمّة أيضاً واردة على العين ، أي على منفعتها .
17 - ولمّا كان الأصل في الإجارة اللّزوم كما سبق فلا يستقلّ أحد العاقدين بفسخها ، إلاّ أنّ الإمام محمّداً - في إحدى الرّوايتين عنه - يقول : إنّ الإجارة المضافة يجوز لكلّ من طرفي العقد الانفراد بفسخها قبل حلول بدء مدّتها .
18 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإجارة غير قابلة للتّعليق - كالبيع - وصرّح قاضي زاده من الحنفيّة بذلك ، وقال : « الإجارة لا تقبل التّعليق » . وقد تردّ الإجارة في صورة التّعليق ، ولكنّها في الحقيقة إضافة ، كما لو قال لخيّاط : إن خطت هذا الثّوب اليوم فبدرهم ، أو غداً فبنصف درهم . ويمكن أن يقال : إنّ هذه الصّورة من قبيل تعليق الحطّ من أجر - وهو جائز - لا تعليق الإجارة .
19 - يشترط في الصّيغة لانعقاد العقد أن تكون واضحة الدّلالة في لغة المتعاقدين وعرفهما ، قاطعةً في الرّغبة ، دون تسويف أو تعليق ، إلاّ ما يجوز من ترديد الإجارة بين شيئين ، كأن يقول : آجرتك هذه الدّار بكذا شهريّاً ، أو هذه الدّار بكذا ، فقبل في إحداهما - على ما سيأتي عند الكلام عن محلّ العقد .
20 - ويشترط أن يكون القبول موافقاً للإيجاب في جميع جزئيّاته ، بأن يقبل المستأجر ما أوجبه المؤجّر ، وبالأجرة الّتي أوجبها ، حتّى يتوافق الرّضا بالعقد بين طرفيه . كما يشترط اتّصال القبول بالإيجاب في مجلس العقد إن كانا حاضرين ، أو في مجلس العلم إن كان التّعاقد بين غائبين ، دون أن يفصل بين القبول والإيجاب فاصل مطلقاً عند الشّافعيّ ، لاشتراطه الفوريّة ، ولا فاصل بعيد عن موضوع التّعاقد ، أو مغيّر للمجلس ، عند الجمهور الّذين يعتبرون المجلس وحدةً جامعةً للمتفرّقات ، دالّةً على قيام الرّغبة . وبيان ذلك في مصطلح ( عقد ) 21 - ويشترط في الصّيغة لصحّة العقد عدم تقييدها بشرط ينافي مقتضى العقد ، أو يحقّق مصلحةً لأحد المتعاقدين أو لغيرهما لا يقتضيها العقد ، كأن يشترط المؤجّر لنفسه منفعة العين فترةً ، على خلاف وتفصيل للفقهاء في ذلك ، موطنه الكلام عن الشّرط وعن العقد عامّةً .
22 - كما يشترط لنفاذ الإجارة - فضلاً عن شروط الانعقاد والصّحّة - صدور الصّيغة ممّن له ولاية التّعاقد . كما يشترط خلوّ الصّيغة من شرط الخيار ، إذ خيار الشّرط يمنع حكم العقد ابتداءً ، ولا معنًى لعدم النّفاذ إلاّ هذا . ويشترط للزوم الإجارة ، فضلاً عن جميع الشّروط السّابقة ، خلوّها من أيّ خيار . ويقول الكاسانيّ : لا تنفذ الإجارة في مدّة الخيار . لأنّ الخيار يمنع انعقاد العقد في حقّ الحكم ما دام الخيار قائماً ، لحاجة من له الخيار إلى دفع الغبن عن نفسه . واشتراطه جائز في الإجارة عند كلّ من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وقول للشّافعيّة في الإجارة على معيّن . أمّا الإجارة في الذّمّة فقد منع الشّافعيّة خيار الشّرط فيها ، كما منعوه في قول عندهم في الإجارة على معيّن .
المبحث الثّاني
العاقدان وما يشترط فيهما العاقدان :
23 - من أركان عقد الإجارة عند غير الحنفيّة العاقدان - المؤجّر والمستأجر - والحنفيّة يعتبرونها من أطراف العقد لا من أركانه . ويشترط فيهما للانعقاد العقل ، فلا تنعقد الإجارة من المجنون ولا من الصّبيّ الّذي لا يميّز ، فلا خلاف في أنّها لا تنعقد إلاّ من جائز التّصرّف في المال . ويشترط في العاقدين للصّحّة أن يقع بينهما عن تراض ، فإذا وقع العقد مشوباً بإكراه فإنّه يفسد . كما يشترط الشّافعيّة والحنابلة ومن معهم للصّحّة ولاية إنشاء العقد ، فعقد الفضوليّ يعتبر عندهم فاسداً . ويشترط في العاقدين للنّفاذ عند أبي حنيفة ألاّ يكون العاقد مرتدّاً إن كان رجلاً ، لأنّه يرى أنّ تصرّفاته تكون موقوفةً ، بينما الصّاحبان وجمهور الفقهاء لا يشترطون ذلك لأنّ تصرّفات المرتدّ عندهم نافذة . كما يشترط أن يكون العاقد له ولاية إنشاء العقد عند الحنفيّة والمالكيّة الّذين يرون أنّ الولاية شرط للنّفاذ ، بينما يرى الآخرون أنّها شرط للصّحّة كما سبق .
إجارة الصّبيّ :
24 - إجارة الصّبيّ المميّز نفسه بأجر لا غبن فيه تصحّ إن كان مأذوناً له من وليّه ، خلافاً للشّافعيّة ، إذ منعوها مطلقاً ، فإن وقعت استحقّ أجراً . واختلفوا هل هو المسمّى أو أجر المثل . وإن كان محجوراً عليه كان العقد موقوفاً على الإجازة عند الحنفيّة ، وفي الرّاجح عند المالكيّة وروايةً عن أحمد ، لأنّ الولاية شرط للنّفاذ لا للصّحّة ، وكان العقد غير صحيح عند الشّافعيّة وفي قول عند المالكيّة ورواية عن أحمد ، لأنّ الولاية عندهم شرط لصحّة العقد وانعقاده لا لنفاذه .
25 - وإجارة من له الولاية على الصّبيّ نفس الصّبيّ أو ماله نافذة ، لوجود الإنابة من الشّرع . وإذا بلغ الصّبيّ قبل انتهاء المدّة الّتي تمّ عليها عقد الإجارة ففي لزوم العقد اتّجاهان ، فقيل بلزوم العقد لأنّه عقد لازم عقد بحقّ الولاية ، فلم يبطل بالبلوغ ، كما لو باع داره أو زوّجه . وهو قول للشّافعيّة اعتبره الشّيرازيّ الصّحيح في المذهب ، وقول للحنابلة اعتبره ابن قدامة المذهب ، وهو مذهب الحنفيّة في إجارة أمواله . والاتّجاه الثّاني أنّه يصير غير لازم ، ويخيّر في الإجارة ، لأنّه بالبلوغ انتهت الولاية ، وهو مذهب المالكيّة ، وقول عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة ، ومذهب الحنفيّة في إجارة نفس الصّغير ، لأنّ في استيفاء العقد إضراراً به لأنّه بعد البلوغ تلحقه الأنفة من خدمة النّاس ، ولأنّ المنافع تحدث شيئاً فشيئاً ، والعقد ينعقد على حسب حدوث المنافع ، فكان له خيار الفسخ ، كما إذا عقد ابتداءً بعد البلوغ . وهناك قول عند الحنابلة أنّه إذا أجّره مدّةً يتحقّق بلوغه في أثنائها فإنّ العقد لا يلزم بعد البلوغ ، لأنّنا لو قلنا بلزومه فإنّه يفضي إلى أن يعقد الوليّ على جميع منافعه طول عمره ، وإلى أن يتصرّف فيه في غير زمن ولايته عليه ، أمّا إذا أجّره لمدّة لا يتحقّق بلوغه فيها فبلغ فإنّ العقد يكون لازماً .
محلّ الإجارة : الكلام هنا يتناول منفعة العين المؤجّرة ، والأجرة . أوّلاً - منفعة العين المؤجّرة :
26 - المعقود عليه في الإجارة مطلقاً عند الحنفيّة هو المنفعة ، وهي تختلف باختلاف محلّها . وعند المالكيّة والشّافعيّة أنّ المعقود عليه إمّا إجارة منافع أعيان ، وإمّا إجارة منافع في الذّمّة . واشترطوا في إجارة الذّمّة تعجيل النّقد ، للخروج من الدّين بالدّين . وعند الحنابلة محلّ العقد أحد ثلاثة : الأوّل : إجارة عمل في الذّمّة في محلّ معيّن أو موصوف . وجعلوه نوعين : استئجار العامل مدّةً لعمل بعينه ، واستئجاره على عمل معيّن في الذّمّة كخياطة ثوب ورعي غنم . الثّاني : إجارة عين موصوفة في الذّمّة . الثّالث : إجارة عين معيّنة لمدّة محدّدة . .
ويشترط لانعقاد الإجارة على المنفعة شروط هي :
27 - أوّلاً : أن تقع الإجارة عليها لا على استهلاك العين . وهذا لا خلاف فيه ، غير أنّ ابن رشد روى أنّ هناك من جوّزها في كلّ منهما لأنّ ذلك كلّه منفعة مباحة . كما توسّع الشّافعيّة في المنفعة فأدخلوا الكثير من الصّور . ويتفرّع على هذا صور كثيرة تستهلك فيها العين تبعاً كإجارة الظّئر ، وإنزاء الفحل ، واستئجار الشّجر للثّمر . فالحنفيّة ينصّون على أنّ الإجارة لا تنعقد على إتلاف العين ذاتها ، والمالكيّة ينصّون على أنّه لا يجوز استيفاء عين قصداً ، كما نصّ الحنابلة على أنّ الإجارة لا تنعقد إلاّ على نفع يستوفى مع بقاء العين إلاّ إذا كانت المنافع يقتضي استيفاؤها إتلاف العين كالشّمعة للإضاءة .
28 - ثانياً : أن تكون المنفعة متقوّمةً مقصودة الاستيفاء بالعقد ، فلا تنعقد اتّفاقاً على ما هو مباح بدون ثمن لأنّ إنفاق المال في ذلك سفه . والمذاهب في تطبيق ذلك الشّرط بين مضيّق وموسّع . وأكثرهم في التّضييق الحنفيّة ، حتّى إنّهم لم يجيزوا استئجار الأشجار للاستظلال بها ، ولا المصاحف للنّظر فيها . ويقرب منهم المالكيّة ، لكنّهم أجازوا إجارة المصاحف وإن كرهوا ذلك . بينما توسّع الحنابلة ، حتّى أجازوا الإجارة على كلّ منفعة مباحة . ويقرب منهم الشّافعيّة ، إلاّ أنّهم لم يجيزوا بعض ما أجازه الحنابلة ، كإجارة الدّنانير للتّجميل ، والأشجار لتجفيف الثّياب ، في القول الصّحيح عندهم .
29 - ثالثاً ويشترط أن تكون المنفعة مباحة الاستيفاء . وليست طاعةً مطلوبةً ، ولا معصيةً ممنوعةً . وهذا الشّرط موضع تفصيل وخلاف بين المذاهب مذكور فيما بعد ( ف 108 ) 30 - رابعاً : ويشترط في المنفعة لصحّة الإجارة : القدرة على استيفائها حقيقةً وشرعاً . فلا تصحّ إجارة الدّابّة الفارّة ، ولا إجارة المغصوب من غير الغاصب ، لكونه معجوزاً عن تسليمه ، ولا الأقطع والأشلّ للخياطة بنفسه ، فهي منافع لا تحدث إلاّ عند سلامة الأسباب . وعلى هذا فلا تجوز إجارة ما لا يقدر عليه المستأجر ، ويحتاج فيه إلى غيره . وانبنى على هذا القول بعدم جواز استئجار الفحل للإنزاء ، والكلب والباز للصّيد ، والقول بعدم جواز إجارة الظّئر دون إذن زوجها ، لأنّه مانع شرعيّ يحول دون إجارتها . وتفصيل ذلك فيما بعد ( ف 116 ) 31 - خامساً : ويشترط فيها أيضاً لصحّة الإجارة : أن تكون معلومةً علماً ينفي الجهالة المفضية للنّزاع . وهذا الشّرط يجب تحقّقه في الأجرة أيضاً ، لأنّ الجهالة في كلّ منهما تفضي إلى النّزاع . وهذا موضع اتّفاق .
معلوميّة المنفعة :
32 - تتعيّن المنفعة ببيان المحلّ . وقد تتعيّن بنفسها كما إذا استأجر رجلاً لخياطة ثوبه وبيّن له جنس الخياطة . وقد تعلم بالتّعيين والإشارة ، كمن استأجر رجلاً لينقل له هذا الطّعام إلى موضع معلوم .
33 - وقد أدّى اشتراط بيان محلّ المنفعة إلى تقسيم الإجارة إلى إجارة أعيان تستوفى المنفعة من عين معيّنة بذاتها بحيث إذا هلكت انفسخت الإجارة كاستئجار الدّور للسّكنى ، وإلى إجارة موصوفة في الذّمّة تستوفى المنفعة ممّا يحدّد بالوصف ، فإذا هلكت بعد التّعيين قدّم المؤجّر غيرها . وعند الحنابلة وفي رأي عند الشّافعيّة اشتراط رؤية العين المؤجّرة قبل الإجارة ، وإلاّ فللمستأجر خيار الرّؤية . غير أنّ الحنابلة يقصرون اشتراطه على بعض الإجارات ، كرؤية الصّبيّ في إجارة الظّئر ، وفي إجارة الأرض للزّراعة ، بينما الشّافعيّة يعمّمون ذلك .
34 - ويعتبر جمهور الفقهاء العرف في تعيين ما تقع عليه الإجارة من منفعة ، فكيفيّة الاستعمال تصرف إلى العرف والعادة . والتّفاوت في هذا يسير لا يفضي إلى المنازعة . وللشّافعيّة في استحقاق الأجر بعد استيفاء المنفعة أربعة أوجه : الأوّل : أنّه تلزمه الأجرة وهو قول المزنيّ ، لأنّه استهلك عمله فلزمه أجرته . والثّاني : أنّه إن قال له : خطه ، لزمه . وإن بدأ الرّجل ، فقال : أعطني لأخيطه ، لم تلزمه . وهو قول أبي إسحاق ، لأنّه إذا أمره فقد ألزمه بالأمر . والعمل لا يلزم من غير أجرة لزمته ، وإذا لم يأمره لم يوجد ما يوجب الأجرة ، فلم تلزم . والثّالث : أنّه إذا كان الصّانع معروفاً بأخذ الأجرة على الخياطة لزمه ، وإذا لم يكن معروفاً بذلك لم يلزمه ، وهو قول أبي العبّاس ، لأنّه إذا كان معروفاً بأخذ الأجرة صار العرف في حقّه كالشّرط . والرّابع : وهو المذهب ، أنّه لا يلزمه بحال ، لأنّه بذل ماله من غير عوض فلم يجب له العوض ، كما لو بذل طعامه لمن أكله . ومن هنا يتبيّن أنّ أبا العبّاس من الشّافعيّة مع الجمهور في تحكيم العرف .
35 - وتتعيّن المنفعة أيضاً ببيان المدّة ، إذا كانت المنفعة معروفةً بذاتها ، كاستئجار الدّور للسّكنى . فإنّ المدّة إذا كانت معلومةً كان قدر المنفعة معلوماً ، والتّفاوت بكثرة السّكّان يسير ، كما يرى الحنفيّة . ويرى الصّاحبان أنّ كلّ ما كان أجرةً يجب بالتّسليم ، ولا يعلم وقت التّسليم ، فهو باطل ، ويرى الإمام جوازه . وهذا الشّرط غير مطّرد ، فلا بدّ منه في بعض الإجارات ، كالعبد للخدمة ، والقدر للطّبخ ، والثّوب للّبس . وفي البعض لا يشترط . والحنابلة وضعوا ضابطاً واضحاً ، فهم يشترطون أن تكون المدّة معلومةً في إجارة العين لمدّة ، كالدّار والأرض والآدميّ للخدمة أو للرّعي أو للنّسج أو للخياطة ، لأنّ المدّة هي الضّابط للمعقود عليه ، ويعرف بها . وقيل فيها : إنّه يشترط أن يغلب على الظّنّ بقاء العين فيها وإن طالت المدّة . وأمّا إجارة العين لعمل معلوم ، كإجارة دابّة موصوفة في الذّمّة للرّكوب عليها إلى موضع معيّن ، فإنّه لا اعتبار للمدّة فيها . ويوافقهم الشّافعيّة في ذلك عموماً . ويقرب من هذا المالكيّة ، إذ قالوا : يتحدّد أكثر المدّة في بعض الإجارات ، كإجارة الدّابّة لسنة ، والعامل لخمسة عشر عاماً ، والدّار حسب حالتها ، والأرض لثلاثين عاماً . أمّا الأعمال في الأعيان ، كالخياطة ونحوها ، فلا يجوز تعيين الزّمان فيها .
36 - كما تتعيّن المنفعة بتعيين العمل في الأجير المشترك ، وذلك في استئجار الصّنّاع في الإجارة المشتركة ، لأنّ جهالة العمل في الاستئجار على الأعمال جهالة مفضية إلى المنازعة ، فلو استأجر صانعاً ، ولم يسمّ له العمل ، من الخياطة أو الرّعي أو نحو ذلك ، لم يجز العقد ، وإنّما لا بدّ من بيان جنس العمل ونوعه وقدره وصفته . أمّا في الأجير الخاصّ فإنّه يكفي في إجارته بيان المدّة . يقول الشّيرازيّ : إن كانت المنفعة معلومة القدر بنفسها ، كخياطة ثوب ، قدّرت بالعمل ، لأنّها معلومة في نفسها فلا تقدّر بغيرها . . . وإن استأجر رجلاً لبناء حائط لم يصحّ العقد حتّى يذكر الطّول والعرض وما يبنى به .
37 - وتتعيّن المنفعة ببيان العمل والمدّة معاً : كأن يقول شخص لآخر : استأجرتك لتخيط لي هذا الثّوب اليوم . فقد عيّن المنفعة بالعمل ، وهو خياطة الثّوب ، كما عيّنه بالمدّة ، وهو كلمة : اليوم . وللفقهاء في هذا الجمع بين التّعيين بالعمل والمدّة اتّجاهان : اتّجاه يرى أنّ هذا لا يجوز ، ويفسد به العقد إذ ، العقد على المدّة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل إذ يعتبر أجيراً خاصّاً ، وببيان العمل يصير أجيراً مشتركاً ، ويرتبط الأجر بالعمل . وهذا هو رأي أبي حنيفة والشّافعيّة ورواية عند الحنابلة . والاتّجاه الثّاني جواز الجمع ، لأنّ المقصود في العقد هو العمل ، وذكر المدّة إنّما جاء للتّعجيل . وهو قول صاحبي أبي حنيفة والمالكيّة ورواية عند الحنابلة . وسيأتي بيان هذا عند الكلام عن الأجير الخاصّ والأجير المشترك .
38 - ويشترط في المنفعة للزوم العقد ، ألاّ يطرأ عذر يمنع الانتقاع بها ، كما يرى الحنفيّة على ما ذكرنا عندهم ، لأنّ الإجارة وإن كان الأصل فيها أنّها عقد لازم اتّفاقاً ، ولا يجوز فسخها بالإرادة المنفردة ، إلاّ أنّهم قالوا : إنّها شرعت للانتفاع ، فاستمرارها مقيّد ببقاء المنفعة ، فإذا تعذّر الانتفاع كان العقد غير لازم . وقد نصّ المالكيّة أيضاً على أنّ الإجارة تفسخ بتعذّر ما يستوفى فيه المنفعة ، وإن لم تعيّن حال العقد ، كدار وحانوت وحمّام وسفينة ونحوها . وكذا في الدّابّة إن عيّنت . وقالوا : إنّ التّعذّر أعمّ من التّلف . ويتّجه الشّافعيّة في قول عندهم إلى اعتبار العذر مقتضياً الفسخ ، إذ قالوا بانفساخ العقد بتعذّر استيفاء المعقود عليه ، كمن استأجر رجلاً ليقلع له ضرساً ، فسكن الوجع على ما سيأتي عند الكلام عن انقضاء الإجارة بالفسخ .
إجارة المشاع :
39 - إذا كانت العين المتعاقد على منفعتها مشاعاً ، وأراد أحد الشّريكين إجارة منفعة حصّته ، فإجارتها للشّريك جائزة بالاتّفاق . أمّا إجارتها لغير الشّريك فإنّ الجمهور ( الصّاحبين من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة وفي قول لأحمد ) يجيزونها أيضاً ؛ لأنّ الإجارة أحد نوعي البيع ، فتجوز إجارة المشاع كما يجوز بيعه ، والمشاع مقدور الانتفاع بالمهايأة ، ولهذا جاز بيعه . جاء في المغني : واختار أبو حفص العكبريّ جواز إجارة المشاع لغير الشّريك . وقد أومأ إليه أحمد ، لأنّه عقد في ملكه ، يجوز مع شريكه ، فجاز مع غيره كالبيع ، ولأنّه يجوز إذا فعله الشّريكان معاً فجاز لأحدهما فعله في نصيبه مفرداً كالبيع . وعند أبي حنيفة وزفر وهو وجه في مذهب أحمد لا تجوز لأنّ استيفاء المنفعة في الجزء الشّائع لا يتصوّر إلاّ بتسليم الباقي ، وذلك غير متعاقد عليه ، فلا يتصوّر تسليمه شرعاً . والاستيفاء بالمهايأة لا يمكن على الوجه الّذي يقتضيه العقد ، إذ التّهايؤ بالزّمن انتفاع بالكلّ بعض المدّة ، والتّهايؤ بالمكان انتفاع يكون بطريق البدل عمّا في يد صاحبه ، وهذا ليس مقتضى العقد . .
المطلب الثّاني
الأجرة 40 - الأجرة هي ما يلتزم به المستأجر عوضاً عن المنفعة الّتي يتملّكها . وكلّ ما يصلح أن يكون ثمناً في البيع يصلح أن يكون أجرةً في الإجارة ، وقال الجمهور : إنّه يشترط في الأجرة ما يشترط في الثّمن . ويجب العلم بالأجر لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من استأجر أجيراً فليعلمه أجره » ، وإن كان الأجر ممّا يثبت ديناً في الذّمّة كالدّراهم والدّنانير والمكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة فلا بدّ من بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره . ولو كان في الأجر جهالةً مفضيةً للنّزاع فسد العقد ، فإن استوفيت المنفعة وجب أجر المثل ، وهو ما يقدّره أهل الخبرة . 41 - وجوّز الجمهور أن تكون الأجرة منفعةً من جنس المعقود عليه . يقول الشّيرازيّ : ويجوز إجارة المنافع من جنسها ومن غير جنسها ، لأنّ المنافع في الإجارة كالأعيان في البيع . ثمّ الأعيان يجوز بيع بعضها ببعض فكذلك المنافع . ويقول ابن رشد : أجاز مالك إجارة دار بسكنى دار أخرى . ويقول البهوتيّ ما خلاصته : يجوز إجارة دار بسكنى دار أخرى أو بتزويج امرأة ، لقصّة شعيب عليه السلام ، لأنّه جعل النّكاح عوض الأجرة . ومنع ذلك الحنفيّة ، إلاّ أن تكون الأجرة منفعةً من جنس آخر ، كإجارة السّكنى بالخدمة . 42 - ومن الفقهاء من لا يجيز أن تكون الأجرة بعض المعمول ، أو بعض النّاتج من العمل المتعاقد عليه ، لما فيه من غرر ، لأنّه إذا هلك ما يجري فيه العمل ضاع على الأجير أجره ، وقد « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطّحّان » ، ولأنّ المستأجر يكون عاجزاً عن تسليم الأجرة ، ولا يعدّ قادراً بقدرة غيره . وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة . ومثاله : سلخ الشّاة بجلدها ، وطحن الحنطة ببعض المطحون منها ، لجهالة مقدار الأجر ، لأنّه لا يستحقّ جلدها إلاّ بعد السّلخ ، ولا يدري هل يخرج سليماً أو مقطّعاً . وذهب الحنابلة إلى جواز ذلك إذا كانت الأجرة جزءاً شائعاً ممّا عمل فيه الأجير ، تشبيهاً بالمضاربة والمساقاة ، فيجوز دفع الدّابّة إلى من يعمل عليها بنصف ربحها ، والزّرع أو النّخل إلى من يعمل فيه بسدس ما يخرج منه ، لأنّه إذا شاهده علمه بالرّؤية وهي أعلى طرق العلم . والمالكيّة في بعض الصّور الّتي يمكن فيها علم الأجر بالتّقدير يتّجهون وجهة الحنابلة ، فيقولون : إن قال : احتطبه ولك النّصف ، أو : احصده ولك النّصف ، فيجوز إن علم ما يحتطبه بعادة . ومثل ذلك في جذّ النّخل ولقط الزّيتون وجزّ الصّوف ونحوه . وعلّة الجواز العلم . ولو قال : احتطب ، أو : احصد ، ولك نصف ما احتطبت أو حصدت ، فذلك جائز على أنّه من قبيل الجعالة . وهي يتسامح فيها ما لا يتسامح في الإجارة . وقد أورد الزّيلعيّ الحنفيّ صورةً من هذا القبيل ، وهي أن يدفع إلى الحائك غزلاً ينسجه بالنّصف . وقال : إنّ مشايخ بلخ جوّزوه لحاجة النّاس ، لكن قال في الفتاوى الهنديّة : الصّحيح خلافه .
أثر الإخلال بشرط من الشّروط الشّرعيّة :
43 - إذا اختلّ شرط من شروط الانعقاد بطلت الإجارة ، وإن وجدت صورتها ، لأنّ ما لا ينعقد فوجوده في حقّ الحكم وعدمه بمنزلة واحدة . ولا يوجب فيه الحنفيّة الأجر المسمّى ، ولا أجر المثل الّذي يقضون به إذا ما اختلّ شرط من شروط الصّحّة الّتي لا ترجع لأصل العقد والّتي يعتبرون العقد مع الإخلال بشيء منها فاسداً ، لأنّهم يفرّقون بين البطلان والفساد ، إذ يرون أنّ العقد الباطل ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه . أمّا الفاسد فهو عندهم ما شرع بأصله دون وصفه . ولذا كان للعقد وجود معتبر من ناحيته ، فجهالة المأجور ، أو الأجرة ، أو مدّة العمل ، أو اشتراط ما لا يقتضيه عقد الإجارة من شروط ، كلّ ذلك يجب فيه أجر المثل عندهم باستيفاء المنفعة ، بشرط ألاّ يزيد أجر المثل عن المسمّى عند الإمام وصاحبيه . أمّا من غير استيفاء شيء من المنفعة فلا شيء له عند الحنفيّة وفي رواية عن أحمد . 44 - وجمهور الفقهاء لا يفرّقون بين العقد الباطل والعقد الفاسد في هذا ، ويرون العقد غير صحيح بفوات ما شرط الشّارع ، لكونه منهيّاً عنه . والنّهي يقتضي عدم وجود العقد شرعاً ، سواء أكان النّهي لخلل في أصل العقد ، أو لوصف ملازم له ، أو طارئ عليه . والنّهي في الجميع ينتج عدم ترتّب الأثر عليه ، ويكون انتفاع المستأجر غير مشروع ، ولا يلزمه الأجر المسمّى ، وإنّما يلزمه أجر المثل بالغاً ما بلغ إذا قبض المعقود عليه ، أو استوفى المنفعة ، أو مضى زمن يمكن فيه الاستيفاء ، لأنّ الإجارة كالبيع ، والمنفعة كالعين ، والبيع الفاسد كالصّحيح في استقرار البدل ، فكذلك في الإجارة ، هذا عند الشّافعيّ . ومثله مذهب مالك وأحمد فيما إذا كان قد استوفى المنفعة أو شيئاً منها . وأمّا إذا كان قد قبض المعقود عليه ، ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء ، فعن أحمد رواية بلزوم أجر المثل ، لأنّه عقد فاسد على منافع لم يستوفها ، فلم يلزمه عوضها . .
مواقع النشر (المفضلة)